خريستو المرّ
الثلاثاء ١ أذار / مارس ٢٠٢٢ كلّ دم بريءٍ يُسفك واحدٌ مع دم المسيح، وكلُّ طفلٍ يُهَجَّر هربًا من سيفٍ هو واحدٌ مع المسيح الذي هرب طفلًا من سيف هيرودس. ما كشفته المسيحيّة لأتباعها في المسيح المصلوب أنّ الله حبّ وأنّه يتعارض بشكل مطلق مع فكرة إله الحرب، أو الإله المبارك لحرب. الله ليس جنرالًا عند أحد، ولو صادر اسمه الناس في حروبهم، وما من صكّ قداسة يمكن أن يُعطى لأيّة حرب، وليس عبثًا أنّ اللاهوت الأرثوذكسيّ رفض أن يسمّيَ المحاربين شهداء، وحصر التسمية بالذين سُفِكَت دماؤهم بسبب من إيمانهم. أمّا الشعوب فتسمّي شهدائها كما تشاء، وتخترع رموزها لتقوية العصبيّة، والعصبيّة قد تظل وتلامس العنصريّة أو تمهّد لها. يبقى أنّ لاهوتيّا لا يمكننا أن نرى الله في وجه القاتل حتّى ولو قَتَل باسمه، أو رُشَّت أسلحته بصنوف الصلوات. قد يبرّر الإنسان قتالًا يخوضه ليحمي نفسه وغيره ويحافظ على حرّية شعبه. وبرأيي، يمكن تبرير النضال التحريريّ العنفيّ دفعًا لتعاظم الشرّ أو دحرًا له وخدمةً لوجه الإنسان. لكنّ لا شيء في المسيحيّة يمكن أن يجعل من ذلك عقيدة أو أن يسهّل اللجوء إلى العنف، ويبقى التوتّر بين المحبّة المطلوبة والعنف المفروض بواقع العالم حولك، ضروريّا حتّى لا يصبح الله صنمًا لقبيلة ولمصالحها كما أصبح لطوائف لبنان المتصارعُ أسيادُها على المغانم والسلطة. لا يمكن الدخول إلى الملكوت إلّا بقلبٍ مجروح بخدمة الآخرين وحبّهم ولو أنّ اليدين قد تتلطّخا بوحول الأرض وضغوط الواقع. الحبّ هو أفق الملكوتيّين. الحكومة الروسيّة في حربها على أوكرانيا تقتل وتهجّر وتحتلّ وتخرق القوانين الدوليّة فكيف لا تُدان؟ ومَن أدان احتلال العراق وأفغانستان سابقا كيف يمكنه ألّا يبالي لحرب اليوم. كذلك منافقٌ وعنصريٌّ مَن كان يصفّق للاحتلالين المذكورين وهو يدين الحكم الروسيّ اليوم. إنّ الإعلام الـمُبرمج والخاضعُ بشكل شبه كلّي للأجندات الحكوميّة في الغرب في حالة الحرب، يسعى ليحيّد العقل عن النقد. تبسيط ما بعده تبسيط للواقع: رئيس روسيا يكره ديموقراطيّة أوكرانيا هو اختصار الوضع على التلفزيون سي بي سي الكندي. إن كانت الحرب هذه تُدان كون القويّ الروسيّ يريد فرض إرادته على الضعيف، فإنّ مسار الأحداث يدلّ أيضًا على أنّ إرادة القويّ الأميركيّ يريد حصار روسيا وفي سبيل ذلك خرق كلّ المعاهدات الموقّعة معها (يمكن قراءة هذا المسار في جريدة لوموند ديبلوماتيك المحترمة، مثلًا). الروحيّة المسيطرة عند الحكومات الأميركيّة والأوروبيّة والتي تنامت بعد سقوط الاتّحاد السوفياتيّ هي روحيّة الإلغاء. هذا ليس كلام في قداسة الروس الذين تتنامى لديهم شوفينيّة قوميّة عنصريّة بغيضة، وإنّما تذكير بالوجه الآخر للواقع: روحيّة الإلغاء الأميركيّة-الأوروبيّة التي دمّرت حتّى الآن بلادا بأكملها في منطقتنا. هذا يضع الحرب اليوم في سياق التاريخ. مَن أراد إدانة الحرب الروسيّة عليه أن يكمل الرؤية الصائبة هذه بإدانة روح الإلغاء الأميركيّة التي تستعدي، والتي تستدعي كلّ ردود الفعل لدى شعوب كثيرة أكانت ضعيفة، كما هي حالنا، أم كانت قويّة خائفة من الضعف والاستفراد، كما هي حال الصينيّين والروس والإيرانيّين. جشع القويّ هو الذي يؤسّس لعالمٍ يسوده الفقر والتدمير، ورغبته بالسيطرة تنبع من هذا الجشع بالذات، وفي الحالة الأميركيّة هي تنبع أساسا من حاجة شركاتها إلى المزيد من الأرباح ولو بواسطة التدمير. إن خاف القويّ من الضعيف أو من قويّ آخر، فذاك كون القويّ لا يريد مشاركة الحياة الكريمة بين الشعوب، وهو لا يريد مشاركة الديموقراطيّة إلّا إذا كانت شكليّة خاضعة له، فهو مستعدٌّ أيضًا لمشاركةِ ودعمِ كلّ أنواع الديكتاتوريّات والفساد، من أميركا اللاتينيّة مرورا بأوروبّا الشرقيّة وحتّى منطقتنا، على أن تكون خاضعة لجشعه بشكل مطلق. للضعيف أن يخاف من القويّ، هذا ليس فقط حقّه وإنّما يفرضه العقل والحسّ السليمين. أمّا نحن المستضعفون في منطقتنا، فلن يغيّر الله ما بنا حتّى نغيّر ما بأنفسنا. العنصريّة المقيتة التي تفوّه بها صحفيّون وساسة بحقّ شعوبنا وغيرنا من الشعوب، خلال الأزمة الأوكرانيّة، تدلّ أنّه لن يحترمنا أحد إن لم نكن مِنَ الذين يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم، وهذا لا يكون بالجبن، ولا بالحياد المنافق الذي يتدخّل في كلّ شيء إلّا في الدفاع عن شعبه، ولا يكون بالتغنّي بالديموقراطية والحرّية كأنّهما حلمٌ جميلٌ مسروق، وإنّما بقدرتنا على الدفاع عن أنفسنا أوّلًا؛ فالاحتلال لا يترك لا حرّية ولا عدالة ولا ديموقراطيّة. سياسة الذلّ والزحف أمام أميركا وإسرائيل في منطقتنا لن تعطينا أيّ احترام، بل ستُخضِعُ شعبنا لمزيد من الاستغلال والتقييدِ للحرّية، تُضافان إلى ما يعانيه أصلا بشأنهما من حكّامه. لكنّ هناك أمرٌ آخر غير قدرتنا الدفاعيّة أمام الخارج؛ في الداخل، هناك مسؤوليّتنا في احترام أنفسنا، واحترام حرّية بعضنا البعض، واحترام حياة وحقوق بعضنا البعض، فلن يحترم أحدٌ لا حقوقنا، ولا دماءَ أطفالنا، ولا حرّيتنا، ولا كرامتنا، إن لم نحترمها نحن في أفراد شعوبنا. هناك ورشُ تغييرٍ كبيرة نحتاجها، لها أن تتكامل دون أن تنتظر الواحدة اكتمال الأخرى وانتصارها؛ وتبقى القدرة أساسُ بقاء أيّ بلد. ما من درسٍ مشرّف تتلقّاه الشعوب المقهورة من صلفِ وعنصريّةِ وجشعِ قوى القهر الكبرى. تبًّا لها جميعًا، تَسفُك دماءَ الفقراء حول هذا الكوكب الصغير، كلّما اشتهى قاهرٌ مزيدًا من السلطة، والرأسماليّةُ قاهرة ولو كره أن يتذكّر ذلك أولئك الذين يتناسون ضحاياها، فقط لأنّهم ليسوا منها. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |