خريستو المرّ
الثلاثاء ٢٢ آذار / مارس ٢٠٢٢ لا شكّ، أنّه كان فرحَ والديه عندما وُلِد. أدمعت أمّه، لا شكّ. فرحتْ بعد ألمٍ، لا شكّ. لم نتكلّم كثيرًا، كان كلينا قليل الكلام، فهو كان كثير الصمت وأنا كنت ولدًا يحدّث الأشجار عن كلمات السماءِ وبكاءِ الأرض. لكنّه قال الكثير في رذاذ كلماته: الغنيّ يأكل الفقير. الدولة لا تأبه. العمل قليل. ونحن العمّال من يأبه لنا؟ دولة حراميّة. لم يحتج لكلمات كثيرة كي يقول الحقيقة، فقد كانت الحقيقة ساكنة لحمه. مهنته بلّاط يحوّل التعرّجات سَهلًا مُمتنعًا؛ ولأسبابٍ لا يعلمها إلّا من غرس عصر لبنان "الذهبي" أنيابُه في لحم عائلته، كان يتكلّم الحقيقة. لا يحتاج الحقّ للذكاء الكبير لكي يُنطَقَ به. الأذكياء يعرفون كيف يبرّرون الظلم وكيف يُجَمِّلون الفقراءَ في القصص لكي ينسونهم في بواطن الكتب. كان يحتاج إلى البحر. أمام البحر، يُلقي الفقراء عن أكتافهم جبالًا من الظلمِ ليرتموا في ما يشبه الله ويصبحوا خفيفين كالروح؛ وكأنّهم يعودون إلى أحشاء الحياة – حوّاء الأولى – ليخرجوا بعدها مولودين من جديد. وفي البحر، يسبح الفقراءُ في الغيمِ مجانًا، يحلّقون قليلًا فوق، ويتحرّرون من الموت البطيء. ومَن اصطاد السمك يعرف كيف يتأرجح النسيان مع فَلّين القصب، وكيف يتبادل الصيّادون كلمات الهروب من الأوجاع فوق صفحات الأمواج، يضعونها في زجاجات الأحاديث الصغيرة والدعابات ويرمونها مرتجفة بنعيق النورس. البحر الوسيع كان رفيق مغامراته بحثا عن مكان ارتياحٍ يناجي فيه آلهة الليل والنهار. هل عرف الله؟ سؤال يسأله الذين لا يجوعون، أمّا الآتون من الجوعِ إلى استرداد كرامتهم البشريّة، واسترداد دمائهم من مساحات ربطات العنق، فيسألون الله لماذا؟ ويعرفون السكاكين التي تكلّمت باسمه كثيرًا ولهذا قد يتوقّفون عن السؤال. لم تكن شيوعيَّةُ الفقراء في لبنان إلّا صرخة المسحوقين أمام الوحش، صرخوها قبل أن يبتلع الوحش المجتمع بأكمله، إلى حين. أمّا فؤاد، فالبحرُ كان يمسحُ عن وجهه كلّ حزنٍ لتقفز الطفولةُ في عينيه ويتألّق قمر. كان شبيه اسمه، كان قلبًا كلّه. كان يرمي كلماته القليلة في الدقائق المعدودة، يسأل عن الأحوال، ويرمي بدلوه في بئر فكر الله الذي كشفه للمساكين ويقول الحقيقة. كان هذا يحدث في العيد، في كلّ عيد حيث البشرُ عصافيرٌ تشكرُ من أجل الحياة التي تجري في أرواحها، وتتكلّم غناء الحبّ للحبّ. كان يعبّ من محدوديّات هذا الزمن، وهذه الأرض، والمحيط الذي ترمي الحياةُ واحدَنا فيه كالنرد: هذه عائلتك، وهؤلاء إخوتك، وهؤلاء أقرباؤك، وهذا بلدك، وهذه طبقتك الاجتماعيّة، وهذه مدينتك... وهذا البحر بحرك. كان يعبّ من المحدوديّات ليتمكّن من الحياة ومن القول. لست أدري كيف كان ينظر إلى نفسه، أعلم أنّ الناس الـمُحِبّة كان تحبّه، وأنّ مساكين الميناء، مساكين شواطئ الهواء المشبع بالملح، رأوه أخًا. ربّما حزن عليه جاره لأنّه رأى فيه وجهَه. ربّما حزنت عليه جارته لأنّها رأت فيه مصير ابنها. ربّما حزنت عليه ابنة الجيران لأنّها رأت فيه روحها التي تهيم في المشوار الصيفيّ على الكورنيش بحثًا عن قارب نجاةٍ لا يأتي. ربّما حزن عليه "الأوادم" لأنّهم لا يحبّون موت البريء. مات فؤاد، توجّع، دخل المستشفى، ومات. مات ببساطة كلّية، لكنّ الأسباب لم تكن طبيعيّة، مات فؤاد لأنّ سياسيّو لبنان قتلوه كغيره بمنعهم عن الناس الطبابةَ المجانيّة. مات فؤاد أوّل من أمس وحزنت عليه اخته الوردة، وربّما أيضًا حزنت أمواجُ المدينة غيرُ الآبهة عادةً لأحد.
0 Comments
Leave a Reply. |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
November 2022
Categories |