خريستو المرّ
الثلاثاء ١٦ آذار ٢٠٢١ الحارات شيء تافه عند البعض الذي لا يعرف من الهويّة إلاّ الرصيد المصرفيّ، أو مرآة شهادة جامعيّة أو أشياء يختبئ بها من اللامعنى ومن مغامرة الحياة. لكنّ الذين أبحروا يعرفون أنّ التفاهة تعشّش عادة في المرايا، وأنّ رائحة الموت تجمّل صحراءَها بالرخام، كما حلا للناصريّ يوما أن يقول. ولكنّ صديقي قال لي البارحة - وقد عاد طفلًا - «أنّ الحارات وطنٌ لا يرى أحدٌ فيه نفْسَه غريبًا. هذا جمال الحارات». كان العالم بأسره يتموّج تحت قدميه وهو يُبحر في الحارة بين ضفّتين من جدرانٍ أكل طلاءَها وحشُ الإهمالِ، ثمّ عرف لاحقًا أنّ «الوحش» كان لقبًا للظلم البنيويّ. نما في شلّة صغارٍ تعاركوا، تصالحوا، لعبوا ليتعرّفوا على العالم المختبئ حولهم، قطفوا «حُمّيضة» ليأكلوا وتقشعرّ أبدانهم، لكنّهم لم يقطفوا زهرة؛ ومع ذلك كانت مزهريّةُ أحلامهم مليئة بالحدائق. وكما يجدر بالأطفال، نامت طفولَتُه على صمتٍ كثيف في غابة من الأسئلة. يقول أنّه سكت سبع سنوات، وقرأ سبع سنوات، قبل أن يقع بين يديه مرآة مكتوبة بشغف الفكر، تصفّحها فقالت أسئلةً وطريقًا إلى شيء أجمل. لم يعرف الأجمل إلاّ حين جاءت جماعة وقالت فلنضحك، فلنضحك فقط؛ ولنصبح أصدقاء، أصدقاء فقط؛ ولنأكل ونشرب معًا؛ ولنذهب معًا في رحلة، ولو سجينةٍ؛ وربّما نبكي قليلًا ونفرح قليلًا حين نقول شيئًا حقيقيًّا، وعندها قيل أنّه يتراءى كنزٌ جديدٌ خلف الضباب. فرحلوا معًا حتّى فَقِروا، ولم يبقَ شيءٌ إلاّ ضوءٌ ما وخبزُ الصداقة. لربّما كان الخبز معجونًا بقمحِ الأجوبة، تلك الأجوبة الحقيقيّة المفتوحةِ على الأسئلة؛ لربّما كان الخبز مبلّلا بدمع الضحك والبكاء، لربّما أنضجته نارٌ تخترق الكونَ بالرغبة. ربّما ولكن بالتأكيد كان الخبز مُسْكِرًا، كأنّما غمّسه حُلُمٌ بعيدٌ بخمرٍ مسحورةٍ، قبل الفجر ربّما؛ ربّما مسّته أيقونة ونحن نصيح بالحرب: تبًّا، وبالعالم: نحبّك. بعد ثلاثين عامًا، قال لي أنّه صار يعرف أنّ الأبديّة موجودة لأنّ خبزًا ما لم تمسّه السنون. وفي وسط الصداقة، في حارة الشبيبة الأرثوذكسيّة، وقف إنسان، يقول أنّه إلهٌ، لم يتفوّه بكلمة مع أنّه حدّثنا دائمًا: أحيانًا بضوء، أحيانًا بصاعقة فكرة، أحيانًا برغبة، أحيانًا بالهدوء، أحيانا بشجرة «أكي دنيا»، أحيانًا بصلاة، أحيانًا بين أربعة جدران، وأحيانًا في جزيرة. إنسانٌ إلهٌ مجنونٌ يقف في وجه الواقعيّة المنطقيّة والسلاسل المخمليّة الوحشيّة المكتوبة المقروءة المدروسة المقبولة الراسية في بحر من خنوعٍ رفيع القدر مكلّل بالنياشين والجوائز البهيّة، ويرمي عليه ثورته الكبرى: لا، قولوا لا، واتبعوني. بعد هذا فقد صديقي صوابه. إلى اليوم يتتبّعُ صوتَ إلهٍ يقول أنّه إنسان، إلى اليوم كلّ يوم يخلع حذاء الليل ويركض حافيًا في غابة العاشقين: قال لي أنّه مرّةً صار فراشةً حين لامس خِفّة الضوء فغسلت وجهه، وقال أنّه مرّة أكل كسرة ضوءٍ فكان طعمها عسلًا، ثمّ قال أنّه مرّة صار ضوءًا حين خطفته قطرة حبٍّ رأى فيها بحرًا فبكى. ويقول أنّه يجذف في مركب العمر كي ينام في أفق الحالمين ليستيقظَ، وأنّه يغازل الشعر كي يكتبه في البيت المطلّ على شلالات الحنين. عندما سألته: ما زلتَ تتذكّر؟ أجابني: وهل ينسى إنسانٌ نفسه؟ قلت نعم، إن نسي الآخرين. ضحكنا كلانا. وقال لي لم يشعر يومًا أنّه غريبًا لا في حارات الطفولة، ولا في حارات إنسان يقول أنّه إلهٌ، وإلهٍ يقول أنّه إنسان، ولا في مملكة الحبّ حيث تطلّ بشعرها السماء ليصعد كلُّ المحبّين. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |