إلى أمّهات ضحايا جرائم الساسة: في الحرب والسلم
الثلاثاء ٢٣ آذار ٢٠٢١ خريستو المرّ مريم، تلك التي ولدتْ «الكلمة الذي من عند الله»، جاءت بإنسان أراد أن يكون البشر جُددًا، أي أن يصيروا آلهة، كما قال قدّيس من الاسكندريّة. تلد الأمّهات أطفالهنّ في هذا العالم كلماتٍ، ومن نجحن هنّ اللواتي عرفن كيف يعلّمن كلماتهنّ فنّ الحياة، أي فنّ الحبّ اليوميّ. تقول الأمّهات أطفالهنّ كلمات في الأرض، وكلّ كلمة تشتهي أن تكون قصيدة في قلب جماعة من المساكين، علّ هؤلاء يصيرون أجمل حين يلاقوا الضوء الخبيء خلف العالم، علّ الطين يصير بهاءً. لكنّ سياسيّي الأنظمة الوحشيّة - أولئك الذين نصّبوا ذواتهم وحوشًا للعبادة - يلتهمون كلمات الأمّهات، ثمّ يتفوّهون خطابات مات فيها الإحساس: يلتهمونهم بانفجار مرفأ، بحرب أهليّة، بأقبية سجون التعذيب، بالاعتقالات التعسّفيّة السياسيّة، بخطابات فاشيّة، بالتهديد، بالمخابرات، بالمحاكمات الصوريّة، بسجنٍ دائم دون محاكمة، بسلاسل إنجيليّة وقرآنيّة وتوراتيّة. والوحش يخلق عدوّه على صورته، يلد خصمه وحشًا، فإن انتصر الخصم كان وحشًا مطيعًا للوحشيّة، وتابَعَ التهامَ كلماتِ الأمّهات. وفي كلّ ذلك تتابع الأمّهات ذَرْفَ أولادهنّ حتّى الجنون، حتّى القاع المزروع بدموع الأمّهات، والذي لا تعرفه إلاّ مَن نزلت إليه شخصيًّا فماتت يومًا وهي حيّة تُرزَق حين جاءها الخبر: التهم الوحش قلبكِ الذي يمشي. لكنّا نحن الذين لا نفعل شيئا أمام الوحش شركاؤه، شركاء إلى حدّ، في وحشيّته: نحن الصامتون، ونحن الممجّدون له ولـ«حمايتِه» لنا، والفَرِحون لنصره على وحشٍ آخر، والمبرّرون لجوعه إلى القتل وكمّ الأفواه، والمُحتفون بِكواتِم الصوت حين تَكتم كلماتَ خصمٍ، نحن الذين تركنا الكلمةَ المصلوبَ في كلماتِ الأمّهات، وفي وجوههنّ، ثمّ اجتمعنا للصلاة أمام صورة الكلمة، في خطّ أو أيقونة، لنكذب على أنفسنا ونقول «لم نتركْهُ»، نحن الذين جمعنا الأضّداد لنغسل أيدينا من دم هابيل إلى دم كلماتِ بلادنا النازفة في دموع الأمّهات. أن يعود احترام الأمومة إلينا على المستوى الجماعيّ، على مستوى حياتنا العامّة كمجتمع، هو أن يعود الإنسان محورًا وهدفًا لكلّ نشاطاتنا، من الأكثر شخصيّة إلى الأكثر جماعيّةً؛ هو أن نتوب عن تقديس الجيش والقوى الأمنيّة لنقدّس الإنسان كإنسان؛ هو أن نسلخ عنّا تقديسنا الغبيّ لرجالات الطوائف سياسيّين ودينيّين لنتعمّد بروحِ تقديسِ وجهِ الإنسان، وخاصّة وجه المظلوم؛ هو أن يُرسي المؤمنون في أديانهم مشروع تربية دينيّةٍ، تكون ثوريّةً بكونها تؤكّد فكرًا واحدًا يقول أنّ محوريّة الإنسان هي مقياس محوريّة الله، أنّ تقديس الإنسان هو المقياس الوحيد لتقديسٍ صادقٍ لله. عدا ذلك المتديّنون يعيشون نفاقًا في نفاق، ويعومون على زبد من كلام يتحطّم على صخرة أوّل تحدٍّ واقعيّ. دون هكذا مشروع تربويّ سنبقى أسرى الوحشيّة: وحشيّة حُكمٍ يستولد صورته حتّى في مناهضيه. بلادنا منافقةٌ كبلادِ أخرى كثيرة، تَسحق الأمّهات عمليًّا وتحتفي بهنّ رسميّا، تقتل كلماتهنّ وتغطي الجريمة بمعطف سميك من الكلام الأجوف عن وطنيّة وفسيفساء وطوائف وأديان وحقوق وحضارات وأقلّيات وحمايات ومحاور وعربٍ وفُرسٍ، مفتونة بالسفّاح الأجنبيّ والوطنيّ وتصلّي لإلهٍ محبّةٍ وإلهٍ رحيمٍ، تسمح حشرجات كلمات أمّهاتها وتحتفي بالقتلة. أن نحبّ أمّهات وطننا، فعلًا، في الحياة العامّة هو أن نبشّرهن أنّنا سنعيد اختراع أنفسنا، أنّنا سنعيد ولادة أنفسنا من باطن الحقّ كي يلدنا الحقُّ كلماتٍ جديدةٍ تواجه القتلة إن قتلوا بسجن، أو بتعذيب، أو بكمّ أفواه، أو بغياب صحّة، أو ببطالة، أو بنهب للبلاد، أو بمخابرات، أو بسلاحٍ، أو ببطش، أو بانفجارٍ، أو بدِينٍ، أو بقانونٍ جائرٍ، أو بتدميرٍ لبيئةٍ، أو بكلّ ما يدمّر حياة الإنسان، فقط لأنّ هناك أمرًا بسيطًا ببساطة وجوه الأمّهات: كلّ إنسان، كلّ كلمةِ أُمٍّ، هو المقدّس الملموس للمقدّس غير الملموس. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |