خريستو المرّ
الثلاثاء 9 آذار/مارس ٢٠٢١ طالما تحجّج ويتحجّج الكثيرون في الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة في مواجهة تحدٍّ ما يحتاج للتغيير بأنّ «المجتمع غير مُهّيأ» للتغيير. ففي موضوع الطائفيّة تقول الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة أنّها ضدّ الطائفيّة ولكن تمارس صراحة وبتصريحات وتصرّفات مسؤوليها بأنّها تريد المحاصصة الطائفيّة طالما أنّ لبنان طائفيّ، أي طالما أنّ «المجتمع غير مُهّيأ»، فإذا بها صورة عن واقع في المجتمع يسحق الناس. وفي موضوع حياة المرأة تعظّم الكنيسة نظريًّا المرأة ولكنّها لا تنتبه الكنيسة بأنّها جمعت ٦٠ رجلا في حضور امرأتين فقط لكي تبحث بموضوع العائلة، فإذا بها صورة عن المجتمع الذي يهمّش المرأة بشكل يثير الصدمة والسخرية والحزن بآن. ويشيد المسؤولون بالمرأة ومكانتها في «لاهوت» الكنيسة، وفي الوقت عينه لا يأبهون لواقع المرأة الملموس، فإن قام كاهن بالتحرّش بامرأة من الرعيّة وكان لديها الجرأة والقوّة أن تشكوه للمسؤولين لا يفعل هؤلاء شيئًا، بل تجد المرتكب في الأحد التالي في القدّاس ليتابع عمله وتحرّشه كالمعتاد؛ فإذا بالكنيسة صورة عن مجتمعها. ويُشيد المسؤولون في الكنيسة بالأطفال والشباب ولكن عندما يقوم مطران أو راهب بالتحرّش بشاب أو شابّة، يسعى معظم المسؤولين لدفن الموضوع، وعندما يضطرّون لفتحه يقومون بتمويه الحقائق، ويتعاملون بخفّة مع الواقع، ثمّ يعتبروا بأنّهم قاموا بواجباتهم فيتابعوا ورشة سباتهم الفكريّ العميق كأنّ كلّ شيء انتهى، كأنّ الأمر مجرّد حادث عابر لا يحتاج لمتابعة ولا لتخطيط لحماية الناس في الحاضر والمستقبل في المؤسّسات الكنسيّة. والكنيسة بذلك ليست مجرّد انعكاسٍ لمجتمعها بل متخلّفة عنه ومناهضة له، فالمجتمع يتحرّك بشكل حيويّ وفاعل لموقع قياديّ فاعل للنساء فيه، ولحماية النساء والأطفال والأحداث، بينما الكنيسة لا تتخلّف فقط عن تحديث القوانين فيها، ولا تتخلّف فقط عن بناء سياسات ومؤسّسات لحماية العاملات والعاملين فيها، بل تحاول جهدها حماية المرتكبين. *** البارحة كان عيد المرأة العالميّ، فسأبقى اليوم في أوضاع المرأة: كيف تستقيم حجّة «المجتمع غير مُهّيأ» لتغيير في أوضاع النساء أمام تعليم وحياة يسوع المسيح؟ وُلِدَ يسوع في بيئة كانت الرجل فيها يشكر الله في صلاته أنّه لم يَخلقْهُ امرأةً بينما تشكر المرأةُ اللهَ أنّه خلقها "بحسب مشيئته". كما كان مجتمع يسوع يعتبر الماء الذي يقدّمه إنسان من الطائفة السامريّة (المختلفة لاهوتيّا مع اليهوديّة) أنجس من دم الخنازير. ماذا فعل يسوع؟ هل أخذ بعين الاعتبار بأنّ «المجتمع غير مهيّأ» فالتزم بمعاييره وامتنع عن التعامل مع السامريّين واحتقر النساء؟ سأشير لحادثة واحدة. يُخبرنا إنجيل يوحنّا أنّه أثناء مرور يسوع في منطقة سامريّة توقّف عند بئر يرتاح وقد أعياه السفر بينما ذهب تلاميذه لشراء طعام، فجاءت امرأة سامريّة إلى البئر لتأخذ بعض الماء. عوض أن يعتكف يسوع عن الكلام معها وينزوي (فهي من جهة امرأة ومن جهة سامريّة)، بادر إلى الحوار معها مبتدئًا بطلب بسيط داس به كلّ العادات الدينيّة الاجتماعيّة الراسخة: طلب أن تسقيه ماءً، طلب أن يأخذ منها شيئا يُعتَبَرُ أنجس من دم الخنازير. المرأة بالطبع تفاجأت ولكن طلبه يجرّها إلى حوار بدأ بأن سألته عن جرأته بأن يتكلّم معها، ثمّ تابعا معًا حديثًا أفضى إلى حوار لاهوتيّ عميق أطلّ فيه يسوع إلى قلب تلك المرأة ليطلقها حرّة من الخوف، وتجاوز يسوع كلّ الخلاف اللاهوتيّ بين اليهود والسامريّين حول هيكل الله، ليبشّرها بالثورة الإيمانيّة في الزمن الآتي حيث الله سيسكن في القلب البشريّ نفسه فيكون الإنسان هيكل الله، ثمّ أنبأها يسوع أنّه هو شخصيًّا سيفتتح هذا الزمن. تكتشف المرأة عندها أنّه المسيح المُنتظر فترجع إلى قريتها لتخبر السكّان عنه. يعود التلاميذ ويلمحوا يسوع يتكلّم مع المرأة السامرية يشعروا بالصدمة، ولكنّهم لا يقولون شيئًا. أُحرج التلاميذ على ما يبدو. لا شكّ أنّهم أحسّوا بالفضيحة: معلّمهم الدينيّ الذي يجلّون، يتحدّث مع امرأة خارجةٍ عن الدين القويم، لولا تقديرهم له لربّما قرّعوه على "فعلته". النتيجة أنّ أهل القرية استقبلوا يسوع، وبقي يسوع مدّة يومين يعلّم في وسطهم ويشرب من مائهم. حرّية يسوع الهائلة هذه تدعونا للذهول ولإعادة النظر في مواقفنا. كسر يسوع تقاليد مجتمعه كلّها بخطوة بسيطة، ولكنّها مرفوضة لمن كانوا حوله: أن يدخل في حوار مع امرأة ومن الطائفة السامريّة. موقف المسؤولين الكنسيّين من حالة المرأة في بلادنا وفي الكنيسة موقف مخزٍ عندما نقارنه بموقف يسوع. لا يمكن تبرير ذاك المزيج من التقاعس والجبن وانعدام الإحساس الذي يعيشه المسؤولون الكنسيّون عندما يتعلّق الأمر بكلّ تحدّ كنسيّ يطاول أمرًا آخر غير سلطتهم. يكسر يسوع أنماط التفكير والتصرّف المجتمع والدين، بينما يكرّر المسؤولون الكنسيّون أسوأ ما في أنماط مجتمعهم. فبينما المجتمع مُهَيَّأ لوجود امرأة في مواقع قياديّة عديدة، فإنّ لا مكان للمرأة في موقع قياديّ واحد في الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة، بل لا يوجد أستاذة لاهوت واحدة متفرّغة في معهد اللّاهوت في جامعة البلمند؛ وبهذا، فالوضع في الكنيسة أسوأ بكثير من المجتمع. هناك شيء من تهميش مقصود، ليس لأنّ المجتمع غير مهيّأ بل لأنّ القيادات غير مُهيّأة، لا يمكن إلاّ أن يشتمّ الإنسان رائحة مزيج من رهاب المرأة وكراهيّة النساء في جوّ الكنيسة الأنطاكيّة الأرثوذكسيّة. وصول قيادة كالبابا فرنسيس إلى سدّة الرئاسة الأنطاكيّة أمرٌ بعيد الاحتمال حاليّا. لكن أتوجّه برأي للقارئات، لا تنتظرن من المسؤولين الكبار في الكنيسة أن يتصرّفوا بحسب الانجيل من تلقاء أنفسهم، إذ يبدو عليهم ولكأنّهم مجرّد مجموعة رجال يعيشون في عالم مغلق مكتفٍ بذاته وسلطته وأولويّاته، لن يُطرح وضعُ النساء بشكل سليم في أجنداتهم إلاّ من خلال حركة نسائيّة كنسيّة. تواصلن مع بعضكنّ البعض ولو كنتنّ ثلاث نساء في البداية، استخدمن أدوات التواصل الاجتماعي لتأسيس شبكة نسائيّة. ما من شكّ أنّه يمكنكنّ التخطيط والعمل معًا في الكنيسة للضغط لانتزاع موقعكنّ فيها. أن تضغطن في موضوع واحد وتنتصرن فيه سيشجّعكنّ على المتابعة. ولربّما من الأفضل ألّا تقبلن بأنصاف حلول قد يقترحها رجالٌ لأنّهم لا يشعرون بحالكنّ مثلما تَشْعَرْنَ بأنفسكنّ. يمكنكنّ إنشاء شيء تكتشفْنَهُ بأنفسكنّ، ربّما تهدِفْنَ لتقبّل الشكاوى حول التحرّش الجنسيّ في الكنيسة وتوثيقها، أو تطالبنَ بتمثيلٍ نسائيّ من ستّين امرأة من ذوات الاختصاص، حين يجتمع للبحث في شؤون العائلة حوالي ستّين مسؤولٍ من رجالِ الدين، يُقال أنّ جلّهم لم يَعُدْ يملك اختصاصًا سوى بالإذعان للرتبة الكهنوتيّة الأعلى؛ ومن طلب في السلطة والمال العُلى أذعن النهارات والليالي (وتسلّط على الأضعف تعويضًا). «يا نساء الكنيسة فلنتّحد»، صرخة لا بدّ أن تطلقها -بطريقة ما - النساء في الكنيسة يومًا.
0 Comments
Leave a Reply. |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
November 2022
Categories |