خريستو المرّ
الثلاثاء ٢ آذار/مارس ٢٠٢١ يولد الإنسان ويعيش داخل شبكة من العلاقات في العائلة والمدرسة والمؤسّسات الدينيّة والدولة وغيرها. هذه البنى تولّد بيئة تؤثّر في نفس وعقل وتصرّفات الإنسان؛ لهذا، فإنّ تحليل أثر هذه البُنى على مختلف الميادين ومنها ميدان الإيمان ضرورة. إنّ الإيمان بالله تصديقٌ عميق بوجوده يدفع إلى علاقة محبّة مع الله ومع الناس، وما العبادة إلاّ شكل من أشكال التعبير عن هذه المحبّة: أن يستيقظ إنسان فجرًا للصلاة هو تعبيرٌ على اعتبار الله أولويّةً ومصدرًا للحياة، تشعّ هذه اليقظة حين تصدر عن وَلَهٍ عبّر عنه كبار المتصوّفة. الأمر كذلك في المسيحيّة، الحقيقة فيها أنّ لا شيء إلاّ الحبّ، فيسوع قد كشف بأنّ الله-محبّة وما خطّ يوحنّا ذلك إلّا شاهدًا. لأجل ذلك، يمكن القول بأنّه لا يوجد أيّ هدف على هذه الأرض أعلى من أن يتربّى الإنسان على المحبّة، ولا معنى لأيّ بنية بناها الناس: لا عائلة ولا مدرسة ولا دين ولا دولة، إن لم تنمِّ القدرة على المحبّة. أن يحبّ الإنسان يعني أنّه إنسانٌ حرٌّ أوّلاً، وبحرّيته يلتقي لقاء عميقًا بآخر دون أن يفقد كلّ منهما تمايزه. أي بصيغة أخرى، الـمُحبّ هو الذي يتّحد بآخر بتمايز، في بيئة من الحرّية. وعلى بساطة هذه الجملة فإنّها من أصعب ما يكون، وهي أقرب إلى المشروع الذي يتحقّق تدريجيًّا في الحياة، ويسهر عليه الإنسان حتّى النفس الأخير، ويخطئ فيه ويصوّب ويصيب. مشكلتنا الإيمانيّة مع البيئة التي تولّدها البُنى الاجتماعيّة والسياسيّة، أنّ هذه تؤثّر في ممارستنا للحرّية كما وفي نوعيّة الوحدة التي نمارسها. التسلّط في العائلة، والكنيسة، والمدرسة، والعمل، والدولة، هو مضادٌ للإيمان لأنّه بالترهيب يدفع الإنسان إلى الخوف والخضوع، فيجمّد نموّ الحرّية، ويشوّه العلاقات الإنسانيّة في علاقات تسلّط-تبعيّة حيث لا وحدة ولا تمايز، بل كتلة بلا وجوه. وإن تحرّكت هذه الكتلة سياسيّا ولّدت الفاشيّة، وإن تحرّكت دينيّا وسياسيّا ولدّت الفاشيّة الدينيّة الطائفيّة. من هنا فإنّ الإيمان لا ينسجم مع الديكتاتوريّة، أكانت الديكتاتوريّة علمانيّة أم دينيّة، لأنّها في تناقض صارخ مع الإيمان. مَن يؤمن، فعلاً لا قولًا، لا يمكنه إلاّ رفض كلّ تسلّط في كلّ البُنى من العائلة إلى الدولة. لهذا فإنّ التناغم بين المؤسّسة الدينيّة والديكتاتوريّة يخون الإيمان ولا يعكس وجه لله بل نقيضه. إنّ سقوط مشروع الدولة، في جميع ديكتاتوريّات المنطقة الملكيّة والأميريّة والرئاسيّة، يرمي على عاتق المسؤولين الدينيّين مسؤوليّة مضاعفة بحيث يغدو من واجبهم، دون يدخلوا بتفاصيل السياسة، أن يذكّروا بالمرتجى الإنسانيّ، بمبادئ الإيمان فيشدّدوا على الحرّية والكرامة الإنسانيّة، وعلى أوليّة المحبّة كهدف للبُنى الإنسانيّة، وأن يشهدوا للإيمان بنقد الاعتقالات التعسّفية، والتعذيب، وكمّ الأفواه، والدولة البوليسيّة. وإن كانوا غير قادرين على ذلك، وجب عليهم مسبقًا عدم القبول بانتخابهم رؤساء دينيّين لئلّا يكونون شهداء صامتين على التسلّط الذي يسحق الإنسان، ويعرقل تحقيق أهداف الإيمان العمليّة: تحقيق المحبّة الحرّة. لكنّ الكارثة التي نشهدها، في الأديان الابراهيميّة في منطقتنا، لا تتوقّف فقط على الصمت تجاه ارتكابات الأنظمة، وإنّما بتبنّي معظم السلطة الدينيّة لذهنيّة التسلّط السياسيّ داخل مؤسّساتها، بحيث تغدو المؤسّسات الدينيّة ديكتاتوريّات صغيرة في الديكتاتوريّة الكبرى، وهذا لا يمكن عذره إطلاقًا، لأنّهم هؤلاء المتسلّطون الصغار أصحاب الأمر في مؤسّساتهم. ولكن كيف لا يكون معظم المسؤولين الدينيّين صورة عن المسؤولين السياسيّين إن كانوا قد تربّوا داخل البنى القمعيّة القائمة على مدى الوطن العربيّ، بشكل أكبر أو أقلّ بحسب كلّ بلد؟ وهذا ما يعيدنا إلى نقطة البداية، أنّ للبنى الاجتماعيّة والسياسيّة أثرٌ حاسم على طريقة الحياة. لله الحمد أنّ هذا الأثر ليس حتميّا، أوتوماتيكيّا، إذ يمكن للإنسان الفرد والجماعة أن تنمو في الحرّية وفي المحبّة، ولو ليس بالشكل الأمثل، حتّى ولو عاش الناس في ظلّ أعتى الأنظمة، فأجساد المسيحيّات والمسيحيّين الممزّقة في حلبات روما تشهد. لكنّ ما لم نستوعه كفاية اليوم هو أنّ روما اليوم هي بلادنا القمعيّة والـمُستعمرون، الذين يتعاونون على حصارنا في كلّ لحظة. إنّ الإيمان بالله في لبّه هو مشروع تحرير داخليّ للإنسان، مشروع حرّية ومحبّة، وللناس أن يترجموا ذلك في بناهم الحياتيّة بالطريقة التي يتّفقون عليها في أطر دولة المواطنة التي يتساوى فيها الجميع. إمّا الانجيل فسيبقى في تضادّ مع الأنظمة القمعيّة، ولهذا تحاول الأنظمة السياسيّة تدجين البُنيَة الكنسيّة بتحويلها إلى صورتها، صورة التسلّط. هذا كان دأب السلطة السياسيّة عبر العصور، وعبر العصور حفر المسيح له، ولأتباعه بالقلب، نفقًا للحرّية عبر دهاليز الأنظمة. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |