خريستو المرّ
الثلاثاء ٣٠ آذار ٢٠٢١ في كلّ المجتمعات يرتاح الإنسان إلى ما يشبهه، ولربّما كان ذلك يعود لحاجة الإنسان إلى أن يكون مفهومًا ومُحتَضَنًا في ما يُشبِهُ العائلة، لهذا غالبا ما تنقسم المدن في مجتمعات الاغتراب إلى أحياء متجانسة بحسب البلاد الأصليّة للمهاجرين. لكن عدا الارتياح للشبيه، يحتاج الإنسان أيضًا إلى خريطة طريق تساعده كي يجد جوابًا على قلقه الوجوديّ عن معنى الحياة، ولهذا فهو عادة ما يرتاح إلى ما ألفه من أفكار وعقائد يشاركها مع آخرين لأنّها تزوّده بنوع من خارطة طريق مشتركة يواجه بها الواقع ويتعامل معه بشيء من الطمأنينة في قلب جماعة تشبهه. لهذا يمكننا أن نفهم لماذا يقاوم الكثيرون أيّ فكرٍ جديدٍ، فهو يزلزل خارطة الطريق تلك، يزلزل الأداة التي بواسطتها يحاول أن يجد الإنسان معنى لحياته بها، ممّا يشعرُهُ بالضياع. لذلك يقاوم الإنسان الفكرَ الجديد بقوّة أكبر كلّما كان الفكرُ مخلخلًا لما ألفه من عقائد وأفكار، خاصّة إن كان يجني فائدة من وجودها: هكذا مثلاً، يقاوم المستغلّون والمتسلّطون أيّة فكرة مساواة وتوزيع عادل للثروات الوطنيّة والضرائب التصاعديّة، إلخ. لكنّ عدا ردّات الفعل هذه المشتركة بين كلّ المجتمعات، هناك ضيقٌ آخر في العالم العربيّ، ضيقٌ ناتج عن ثلاثة أمور: أوّلها شعور السكّان أنّ كرامتهم مهدورة جرّاء الهزيمة السياسيّة العامّة تجاه القوى الخارجيّة (الولايات المتّحدة، أوروبا الغربيّة، إيران، وإلى حدّ ما روسيّا)، وثانيها شعورهم بأنّهم مسلوبو الإرادة من حكّامهم المتسلّطين والفاسدين والمتعاونين مع تلك القوى الخارجيّة، وثالثهما تربيةٌ دينيّة على التكفير وعدم احتمال الآخر المختلف. وهذه النقطة الأخيرة موجودة في الدينين الإسلاميّ والمسيحيّ على حدّ سواء، وهي موضوعي. هناك نوع من التربية الدينيّة قائم ليس على قبول عقيدة ما واحترامها والعمل على عيشها، وإنّما مبنيّة على انغلاقٍ على الذات يتجسّدُ بمقارنة الهويّة الدينيّة الذاتيّة بالهويّات الدينيّة الأخرى، وإعلاء شأن الهويّة الذاتيّة وتسفيه وتسخيف ومهاجمة كلّ هويّة وعقيدة أخرى، وخاصّة أن كانت عقيدة طائفة أخرى من الدين نفسه؛ فإن كان من الطبيعي لعقيدة دينٍ آخر أن تكون مختلفة، فإنّ عقيدة مختلفة بناء على الدين ذاته هو أكثر ما يخيف الفكر المغلق للتربية الاستعلائيّة. فالفكر الدينيّ المغلق لا يأبه في الحقيقة لله ولو هو يتشدّق باسمه، فلو كان الله هو الهمّ لجادل الإنسانُ الفكرَ بالفكرِ، ولَقَبِل بأن يكون على صواب وعلى خطأ وترك الحكم بالأمر لله، ولكن العدائيّة وتكفير الآخر والمطالبة بنبذه والعنف اللفظيّ والمطالبة أو القيام بالعنف الجسدي ضدّه (لا ننسى كيف هدّد مسيحيّون حياة أعضاء فرقة فنّية، وكيف ضرب أحدهم الراحل المطران غريغوار حدّاد)، ظواهر تفضح، كما أشار كوستي بندلي، نزعة الإنسان الى المُماهاةُ بين ذاته وبين المثال الأعلى الذي يدين به، أكان المثال الأعلى عقيدة دينيّة أم فلسفيّة. هذه المُماهاة بين الذات والمثال الأعلى تَجعلُ الإنسان يتوهّم أنّه والمثال الأعلى واحد، وإذا المثل الأعلى مرآة ينظر بها الإنسان إلى ذاته ولكأنّها صارت مُطلَقَة ومثاليّة ومُتَخَطّية للمحدوديّات والنقصان. ولهذا فإنّ الصراع الأشرس للإنسان الذي يماهي بين ذاته وبين عقيدته، يكون مع أناسٍ ينطلقون من نفس مُنطلقاته الدينيّة، ولكن يختلفون معه في الاستنتاجات والتصرّف، فهؤلاء لكونهم ينطلقون من نفس المنطلقات – الدين نفسه أو الطائفة نفسها مثلاً – يبرهنون بوجودهم بأنّ ذاك الإنسان يمكن أن يكونَ على خطأً، وبأنّ رؤيته للمثال الأعلى (العقيدة الدينيّة) يمكن أن تخضع للنقاش. الآخر الشبيه والمختلف يُفقِدُهُ رؤيته النرجسيّة لذاته على أنّها مُطلقة وعظيمة، ويُفقِدُهُ بالتالي تلك الأرضيّة الوهميّة التي ارتكز عليها لكي يعلّي شأن ذاته (خاصّة تجاه المختلفين من الأديان الأخرى). إنّ التربية الدينيّة المغلقة المنتشرة في بلادنا مأزقٌ فكريّ وحضاريّ، لأنّها من ناحية تخنق أيّ حوار يمكنه أن يسمح بتقدّم الأفكار وإنتاج الحلول، ومن ناحية أخرى يقدّم مخدّرا للناس مناسبًا للحكّام إذ يزيح غضب الناس عن حكّامهم ويدفعهم لممارسة العنف اللفظيّ والجسديّ ضدّ كبش محرقة يُقَدَّم فداءً عن كرامتهم التي توهّمون أنّها مجروحة من الآخر المختلف، بينما تبقى كرامتهم فعليًّا مُداسة من الحكّام وأدواتهم البوليسيّة والاقتصاديّة. إنّ مواجهة التربية الدينيّة المستعلية على الآخر ضرورة قصوى للخروج من المأزق الحضاريّ الحاليّ، وذلك لتنقية الإيمان من شوائب النرجسيّة وإنتاج فكر دينيّ واجتماعيّ مُحترِم للإنسان، كما ولتوجيهٍ سليمٍ للغضبِ نحو سالبي الكرامة الحقيقيّين. غابت عنّا نوال السعداويّ الأسبوع الماضي وما كان ذاك الكمّ الكبير من الحقد والشتائم والتشفّي الذي قرأناه إلّا تعبيرًا عن هذا الضيق في العالم العربيّ، عن الانغلاق الخائف، وعن لعبة عبادة الذات تحت غطاء عبادة الله، ولعبة الهروب من مواجهة الواقع بالتحامل على كبش محرقة. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |