خريستو المرّ
السبت ١٩تشرين ثاني / نوفمبر ٢٠٢٢ كلّ مَن يحاول أن يبني عملًا سياسيّا إنسانيًّا يخدم المصلحة العامّة في عالمنا العربيّ، يواجه أبعادًا لاعقلانيّة في عمله ينبغي أن يكون واعيًا لها. ما من عقلانيّة تقول بأن ينتخب الناس في لبنان القادة الذين أودوا بهم إلى الهاوية. وإن كان القادة السامّون في السياسة والدين قد أودوا ببلادنا إلى تشظٍّ اجتماعيّ لم نعرفه قبلًا، فإنّ التعلّق الشعبيّ الطوعيّ بهؤلاء يحتاج لفهم لأنّ له منطقه رغم لاعقلانيّته. لدى كلّ إنسان حاجات أساس كالحاجة إلى الطعام والشراب والانتماء إلى جماعة، والأمان، والاعتبار الذاتيّ. والحاجة بالانتماء قد تعلو عن الطعام والشراب، إذ يمكن للإنسان أن يستغني عن شيء من طعامه وشرابه (أو حتّى عن كلّه)، ولكنّه لا يستطيع أن يستغني عن انتمائه إلى جماعة، وهو حتّى إذا خرج عن جماعته بشكل كامل (وهو أمر جدّ نادر) فإنّه يحتاج لا محالة إلى الانتماء إلى جماعة أخرى تؤمن بما يؤمن به. حتّى الأنبياء في مخالفتهم للجماعات التي نشأوا فيها كانوا يشعرون بأنّهم ينتمون إلى جماعة عابرة للعصور تنتمي إلى الخطّ نفسه، وهذا الشعور ما زال يحفّز كلّ مؤمن ناطقٍ بحقٍّ في مخالفة لانحرافات جماعته الإيمانيّة. هذه الحاجة إلى الانتماء تزداد في عالم متغيّر وغير ثابت، والتغيير والثبات هما ميّزتا العالم الحيّ، الثبات هو بالفعل رديف الموت على هذه الأرض. هكذا فالحاجة إلى الانتماء تتضاعف في زمن كزمننا حيث التغيّرات تُعْمِلُ قتلًا وتدميرًا حول العالم وتهدّد وجودنا كبشر على هذه البسيطة، والاستعمار يتكالب علينا من كلّ حدب وصوب، والديكتاتوريّات تنهال علينا بالتحكّم والتحريم والتحليل، مع جرعة من فرص اللهو والتسلية أحيانًا. في ظلّ ظروف كهذه ، يتصاعد القلق والشعور باللاأمان، ولهذا قد تدفع الحاجةُ للانتماء إلى جماعة، والشعور بالأمان في حضنها، الإنسانَ إلى التعلّق بأيّ شيء مؤكّد ويقينيّ، أو تبدو عليه مظاهر الثبات واليقين، وقد يبتدع الإنسان أمام قلقه من اللايقين، يقينيّات مختلفة، منها اليقينيّات الدينيّة الطابع، وهي اليقينيّات الأسهل والتي كلّما كانت أكثر أصوليّة كلّما أعطت شعورًا أكثر حدّة بالثبات والأمان؛ ومنها اليقينيّات الثقافيّة الطابع، كشبكة العلاقات والهويّات والنشاطات، والانتماء إلى جماعة الزعيم المفدّى، والمواعيد الثابتة لظهوره على شاشة التلفاز (يوميّا، أو في مناسبات معروفة)، والأعياد الوطنيّة السنويّة، والانتخابات بمواعيدها الثابتة. والانتماء للقائد يتعاظم كلّما كان القائد يَعِدُ باليقين: يقين في العقيدة، يقين في شرح المشاكل، يقين في الحلول المطروحة، يقين في الهويّة، يقين في رِفْعَة الانتماء إلى مشروعه الوطنيّ أو الإلهيّ، يقين في حكمته. أكثرنا قد يضحّي بفرادته وحرّيته من أجل اليقين في ظلّ قادة يصوّرون أنفسهم بأنّهم «أقوياء» ثابتون، وفي قلب جماعات نتخيّل دائمًا أنّها ذات ماضٍ «ذهبيّ» ومجيد. تشبّث الناس بالقائد المتسلّط و/أو الفاشل ليس كلّه كذب ونفاق نتيجة الخوف. مهما تقلّب القادة وفشلوا فإنّ أكثرنا مستعدّ لأن يوجد لهم التبريرات حتّى قبل أن يوجدوها هم لأنفسهم، فقط للحفاظ على هذا اليقين ودرء قلق اللاأمان. أكثرنا مستعدّ لأن يبني بيديه الأساطير حول القادة الذين أودوا بهم إلى الهاوية، فقط من أجل تلبية حاجاته الإنسانيّة إلى الانتماء، والشعور بالأمان، والشعور باليقين، كما وشعوره بالتقدير الذاتيّ، وبفهم ما يجري حوله من أحداث. بالطبع، كلّ تلك التلبية للحاجات هي تلبية وهميّة لأنّها تأتي عن طريق اختراع واقع وهميّ، وتعلّق بأوهام، واستقالة من المسؤوليّة الشخصيّة؛ بينما التلبية الحقيقيّة لهذه الحاجات المشروعة تأتي عن طريق فهم الواقع ومحاولة تغييره. من التضارب الإنسانيّ أنّ الإنسان الذي يتوق إلى الحرّية مستعدّ أن ينحر حرّيته مقابل الاستعفاء من القلق واللايقين المرافق لكلّ شعور بالمسؤوليّة الذاتيّة عن المصير. تعدّد جان ليبمان بلومان في كتابها «جاذبيّة القادة السامّين»، ستّ أساطير يبنيها الأتباع حول القادّة، ونقدّمها هنا بخلاصة مطبوعة بقراءتنا الشخصيّة لمجتمعاتنا العربيّة. الأسطورة الأولى تُبنى حول الزعيم الخارق شبه الإله الذي يعلم ما لا نعلمه والأقوى منّا والأقدر (تلبية الحاجة إلى الحماية)، والذي يعمل لمصلحتنا في الظروف الأصعب (الحاجة إلى الانتماء والمحبوبيّة). الأسطورة الثانية تشدّد على خطر مخالفة القائد، وتقول بأنّ القائد مختار من الله، أو من الأقدار، في مخالفته مخالفة للإيمان أو للأخلاق، وفي طاعته الأمان (الحاجة إلى الأمان، الانتماء، والمحبوبيّة)؛ وفي حالة الخسارة أو الفشل فإنّ الاطمئنان يأتي من التضحية في سبيل المبدأ المشترك الأعلى، إن كان الله أو التاريخ. الأسطورة الثالثة تتمحور حول الخوف من مخالفة القائد، وهو خوفٌ من خسران مصادر الرزق (حاجات جسديّة، وحاجة إلى الأمان والانتماء)، فالقائد في النهاية لديه شبكات توزيع منافع، ولو أنّها جزءٌ بسيطٌ ممّا يخسره الناس جرّاء قيادته. الأسطورة الرابعة تقوم على أنّ الأمور ثابتة، لا يمكن أن تتغيّر، وأنّ القيادةَ هي جزء من وجود القائد تقليديّا وثقافيّا، واتّباعَهُ جزءٌ من التقليد (حاجة إلى الأمان، والانتماء). أمّا الأسطورة الخامسة فتعتبر أنّ وجودَ القائد نعمةٌ، لأنّه يرفع عن الناس المسؤوليّة الجسيمة عن تقريرهم لمصيرهم طالما هو يقدّم لهم مصادر الرزق والحماية (الحاجة إلى أمان). وأخيرًا، فالأسطورة السادسة تَعِدُنا بالانتماء إلى جماعة القائد فهي جماعة ذات مشروع بطوليّ متميّز نبيل يتطلّب التضحية، والانتماء إليها يجعلنا نبلاء، وأبطالًا، ومتميّزين، وهو ما يلبّي حاجتنا إلى الاعتبار والإنجاز (الوهميّين طبعًا). لا يهمّ نفسيّا إن كانت تلك كلّها أساطير والحقيقة مجافية لها، فكلّها وسائل لهروب أكثرنا من أمر واحد: مسؤوليّة الحرّية. الحرّية أمر صعب وتترافق مع تعب وقلق ومواجهة وتتطلّب شجاعة شخصيّة، لكنّ أكثرنا «يعيش» الشجاعة بتأمّل صورة جماعته في مرآة القائد. الحاجات التي عدّدناها حقيقيّة ومشروعة، لكنّ الطريق إلى تحقيقها ينبغي ألّا يكون وهميًّا. الخلاص الحقيقيّ من كوارثنا لن يأتي من الأساطير، وإنّما من تحمّل مسؤوليّة الحرّية التي منحها الله للبشر لكي يكونوا مسؤولين، فيجتمعون على البِرّ، ويتفكّرون في سُبُل تغيير هذا العالم، بدءًا من بلادهم، ليكون «على حسب قلب الله»: مكانًا لبناء الأخوّة والإنسانيّة والمشاركة، وللدفاع عنهما. الطريق إلى الحرّية الحقّة طويل وبابها بابٌ ضيّق، ولكنّ الحرّية تاج كرامتنا الإنسانيّة تستحقّ أن نطرق من أجلها الطريق الطويل وأن نلج الباب الضيّق.
0 Comments
خريستو المر
الثلاثاء 15 تشرين الثاني 2022 دور القائد أمرٌ ملتبس، وهو يتعلّق أساسًا بممارسة سلطة على آخرين. كلمة السلطة في جذرها اللاتيني مرتبطة بالزراعة، وتتعلّق بعملٍ ينمّي شيئًا. هدفُ السلطة الحقّة هو أن تنمّي الآخر. ولكن أن تنمّيه نحو ماذا؟ السلطة الحقّة تنمّي الآخر ليصبح ما هو عليه بالطاقة، كما أنّ سلطة الزارع تعتني بالبذور والأغراس كي تنمو تلك إلى مآلاتها، منها ما يُصبح الأثمار ومنها الخضار وغير ذلك. الإنسان أيضًا ينمو ليصبح ما هو عليه بالإمكانيّة. كلّ إنسان لديه إمكانات مشتركة تعود للجنس البشريّ برمّته، وإمكانات خاصّة تعود لفرادته، ولهذا كلّ إنسان يحتاج لنموّ قدراته المشتركة مع كلّ الجنس البشريّ، من جسم-عقل-نفس، تحتاج لطعام وشراب وعاطفة وتعليم وعمل وغير ذلك؛ كما ويحتاج إلى نموّ فرادته، فإمكاناته الفريدة ليست مجرّد مواهب خاصّة (قدرة على الغناء، التعليم، صناعة الخبز، مثلاً)، فهذه قد تكون مشتركة مع عدد كبير من الناس؛ وإنّما إمكانيّاته الفريدة هي طريقته الخاصّة الفريدة في عيش تلك المواهب والتعبير عنها من خلال شخصيّته الفريدة، وهذه الشخصيّة الفريدة تُعاش وتُصقَلُ بحرّيته الشخصيّة. إنّ مطلق أيّ سلطة لا يمكنها أن تكون حقّة، وعقلانيّة بالمعنى الواسع للعبارة، إلّا إن سعت إلى تنمية طاقات الإنسان المشتركة مع غيره، كما تلك الفريدة لشخصه، بحيث ينمو الفرد إلى إمكاناته التي هو عليها، وهذا لا يمكن أن يكون إلّا في بيئة من الحرّية، إذ وحدها الحرّية تسمح للفرادة بأن تنمو معبّرةً عن نفسها بشكل أصيل غير مزوّر. السلطة اللاعقلانيّة أو السامّة هي تلك التي لا تخدم أن يكون الإنسان ذاته، بل تحوّله إلى مُلحق لأهدافها، فتجعله وسيلة لا غاية، وتعرقل نموّه نحو تحقيق فرادته، قد تعطيه الطعام والشراب ولا تسمح له بأن يكون ذاته. لبّ فساد السلطة القاهرة هو أنّها تعرقل نموّ الإنسان، وفي عرقلتها تسعى لتشييئه. وفي مسعاها السامّ هذا تولّد الدمار في الآخرين وفي للمجتمع. يمكن لكلّ سلطة، دينيّة كانت أم سياسيّة أم اقتصاديّة، أن تكون لاعقلانيّة سامّة. ويمكن لكلّ شخص منّا أن يذكر أمثلة من واقعه التربويّ أو السياسيّ أو الاقتصاديّ أو الاجتماعيّ أو الدينيّ لشخصيّات سامّة. وللشخصيّات السامّة عدّة شغلٍ تقوم على أدوات تهدف إلى تكبيل الحرّية وخلق الأتباع. تشرح جان ليبمان بلومان "جاذبيّة القادة السامّين"، أنّ القادة السامّين يفخّخون قدرة المحيطين بهم عن الاستقلال عنهم، ويهمّشون كلّ معارضة لهم، أو يحيّدونها أو يقتلونها. وهم عندما يدوسون عمليّا على حقوق الخاضعين لسلطتهم، يقنعون هؤلاء بأنّهم لا يستطيعون شيئا من دونهم (من دون القادة)، مصوّرين أنفسهم على أنّهم يمتلكون قدرات خارقة وعظيمة. وللوصول إلى هذا التحكّم، يلعبون على مخاوف أتباعهم لخنق أيّ عمليّة نقد، ويروّجون لـمُثُلٍ عُليا مفرّغة من مضمونها، فيصبح الامتثال الكامل للقائد عوض مساءلته فضيلة تُدعى الطاعة، وفي حالة السلطة الدينيّة يُعطى مفهوم الطاعة بُعدًا دينيًّا إيجابيّا خلاصيًّا بحيث يصبح الخضوع المطلق الـمُسَمّى زورًا "طاعة" (واللفظة لا في جذورها اللاتينيّة لا تعني سوى الإصغاء) ويغيبون عمق الطاعة ألا وهو الإصغاء لكلمة الحقّ ونبذ الباطل. ويضلّل القادة السامّون الأتباع من خلال الكذب المقصود، والتشخيصات الخاطئة للتحدّيات الحقيقيّة، ثمّ الإيحاء بأنّ السلطة تعرف ما لا يعرفونه. وهنا تكمن عند الخاضعين لسلطة القادة عمليّة تبرير لخضوعهم لا تتوقّف مبنيّة على معرفة للقادة لا يملكونها. وتضرب السلطة السامّة أيّ بنية ملموسة لإحقاق عدالة، أو لتبيان حقيقة، يمكن أن يلجأ إليها الخاضعون لسلطتهم، طالما المعرفة الكاملة للحقائق والظروف غير متاحة سوى للقائد. هكذا، يتمّ رويدًا رويدًا بناء نظام قمعيّ، وضرب أيّ آليات لمساءلة القيادة، أو للتفكير بتغييرها. فالاتّكاليّة تسود بعد اقتناع الخاضعين للسلطة السّامة بضعفهم وبتفوّق القيادة الصحيح أو الوهميّ. ويمتنع القادة السامّين عن وضع أيّة آليّات لخلافتهم، وعن إنماء روح القيادة في المجموعة، فإذا بالفوضى تعمّ بعد تنحّيهم عن القيادة لسبب أو لآخر. وتسعى القيادة السامّة إلى تحريض الأتباع على بعض لكي يستتبّ لها أن تكون الملجأ للجميع فتكون "الحَكَم" في الخلافات التي تشجّعها، والملجأ "الحكيم" للجميع. ولضبط العصبيّة تسعى القيادة السامّة إلى معاملة الخاضعين لها بشكل جيّد، وتحرّضهم كي يخافوا أو يكرهوا الآخرين المختلفين. وعند فشل سياسات القادة السّامين وتضرّر الأتباع من جرّاء ذلك، يسعون إلى خلق كبش محرقة (من الآخرين عادة) والتحريض عليه، لتحويل غضب الأتباع. ويتّبع هكذا قادة سامّون سياسة معروفة لا تفاجئ أحدًا، ألا وهي ترقية أناس عديمي الكفاءة يعلمون تمامًا عدم كفاءتهم وأنّهم لا يمكنهم بكفاءتهم الذاتيّة أن يحوزوا على ما يوازي فتات السلطة والمال الذي يحصلون عليه جرّاء خضوعهم المطلق للقيادة السامّة، ولذلك يسعون دائما إلى استرضاء تلك القيادة بالمزيد من الخضوع والاستزلام حتّى ذاك غير المطلوب؛ ويتناسخ الخضوع من المحيطين بالقائد إلى المحيطين بهم، وهكذا دواليك في سلسلة معروفة من الخضوع للأقوى والتسلّط على الأضعف. نهاية الأمر، بيئة سياسيّة اقتصاديّة اجتماعيّة دينيّة تُعمل هدمًا في الشخصيّة الإنسانيّة، بيئةٌ لا تناسب الإنسان كي ينمو نحو ما يمكنه أن يكون عليه لأنّها بيئة تنفي الحرّية، وهي شرط نموّ الفرادة. ومن وجهة نظر إيمانيّة، لبّ هكذا سلطة سامّة هو عبادة الإنسان لذاته، وعبادة الخاضعين لصنم القائد، وتكبيل لهِبَةِ الحياة التي منحها الله للبشر، ولهِبَة الحرّية، تاج الكرامة الإنسانيّة، تلك الحرّية التي تشكّل لبّ ما يجعل من كلّ منّا إنسانًا فريدًا. وبالنسبة إلى الإيمان فهذا أمر جدّ حسّاس، فالمؤمنون والمؤمنات يرون الحقّ في وجه الله، ولذلك فَهُم يرون السلطة حقّةً إن خدمت نموّ الإنسان الآخر لأنّ كلّ إنسان هو على «صورة» الله المحبوب، كما تقول المسيحيّة، وكما أقرأ رمزيّا في العبارة الكريمة "الخلق كلّهم عيال الله". تكون السلطة حقّة عندما تكون قريبة من الله، وتكون قريبة منه إن كانت خادمة لنموّ الإنسان، ذلك أنّ "أحبّهم إليه أنفعهم لعياله" وما من نفع أفضل من أن ينمو الإنسان إلى ملء ما هو عليه بالإمكانيّة. خريستو المرّ
الثلاثاء 8 تشرين الثاني 2022 إنّ الاستعمار الداخليّ (أو الـمُدَخْلَن) أدهى وأفدح من الاستعمار الخارجيّ المسلّح بأدوات الحرب التقليديّة، فهو حاضر بسلاسله وقضبانه على مستوى النفس، وينعكس في الرؤية والأفكار التي ننتجها. على فوائدها «التقنيّة»، فإنّ المدارس الأجنبيّة والأدب والفلسفة الأجنبيّين، ساهمت في استلاب الإنسان وتغريبه عن واقعه، إذ أسكنت في عقله ونفسه أنّ أوروبا وأميركا الشماليّة شبيهتان بأدبها وفلسفتها وأنّ تيْنك المنطقتين هما معيار كلّ شيء، وجعلته يعرف عنهما أكثر ممّا يعرفه عن تاريخ منطقته وحاضره. بالإضافة إلى هذا الاستعمار الداخليّ فإنّ بُعد الناس عن حركات نقابيّة وازنة وحركات تحرّر، إمّا بسبب القبضة الحديديّة لأنظمة الطغيان، أو بسبب انكفاء معظم الناس خلال الحروب الداخليّة عن العمل العام، ترك معظمنا في حالة انسحاب عن العالم، مهتمّاً بقضايا فرديّة أو عائليّة متوهّمين أنّ العائلة بنية قائمة بشكل مستقلّ عن محيطها ولا تتأثّر به. أمّا الإنسان الذي على شيء من التمسّك بقيمته كشخص فاعلٍ في الحياة فيفعل الممكن – والممكن في أنظمة التعسّف ضيّقٌ بحدود الكلام – فيقول الأشياء «الكبرى» عن الثورة الفرنسيّة، والأميركيّة، وعن الحرّية، مسحوراً بتلك الثورات وأبطالها وقد يعرّج على غاندي ومانديلا بعد أن أصبحا محترمين في الغرب. يحيا ذاك الإنسان غريباً بشكل شبه كامل عن تاريخ منطقته وواقعها، ولهذا يغيب عن حديثه أيّ نقدٍ (حتّى ولو كان مسموحاً) عن أوضاع الاستغلال، والاستغلال في بلادنا له اسم وهو الرأسماليّة، ولكنّ الرأسماليّة أمرٌ محبوب ومفروغٌ من أمره في بلاد الغرب، ولهذا فنقدها لا يمكن أن يخطر في باله. كما يغيب عن حديثه اليد الطولى للدول الأوروبيّة والأميركيّة في زرع إسرائيل وحمايتها، وواقع إسرائيل كقلعة استعماريّة متقدّمة لأوروبا وشمال أميركا لفرض سياسات الاستغلال على أهل المنطقة وإخضاعهم لمصالح المستعمِر. هكذا، نلاحظ أنّ الاستعمار الخارجيّ أصبح داخليّاً بحيث عطّل وعي وجوده، إذ لا يرى جلّ مثقّفينا وكتّابنا وصحافيّينا وشعبنا، في دول الاستعمار المستمرّ، إلّا أفضل ما أنتجته شعوب تلك الدول من كتّاب وأُدباء وفلاسفة، وثورات بعيدة جميلة الطيف، والديموقراطيّات الأجمل بلا شكّ من قبح الأنظمة الشموليّة ومن التعذيب في السجون (وهو تعذيب لا تمانع الديموقراطيّات بممارسته بحقّنا أثناء احتلالاتها). ما يغيب عن الوعي هو أنّ هذه الأنظمة الجميلة لسكّانها من الطبقة الميسورة والوسطى، هي وحشيّة في ما يخصّ الطبقة الفقيرة فيها، وأكثر وحشيّة في ما يخصّ شعوبنا وأيّ شعب آخر خارج أوطانها (استغلال، سلب، قتل، تشريد وحروب)، وأنّها تدعم بدون شكّ الأنظمة الشموليّة التي يكرهها أيّ عاقل، وأنّها بالتعاون والتكافل الواقعيّ مع حكّامنا تستغلّ ثرواتنا، وأنّها زرعت إسرائيل قاعدةً عسكريّة بيننا لتتمكّن من الاستغلال. لهذا، يغيب عن المثقّف الـمُعجَب بالثورات الداخليّة لشعوب بلاد الاستعمار، والتي تمّت فيها اغتيالات وحتّى قتلٌ للأبرياء، أيّ إعجاب أو تعاطف مع مَن يقاوم المشروع الاستعماريّ في بلاده، وكيف له ذلك وهو لا يرى أصلاً مشروعاً استعماريّاً يهاجم أهل هذه المنطقة، وإنّما بلاداً متحضّرة أفضل من بلاده، كيف له ذلك وهو لا يعلم -أو لا يريد أن يعلم- أنّ هذا الأفضل مبنيّ على بحيرة من دماء أجداده ومواطنيه، وأجداد ومواطني بلاد الله الواسعة (أفريقيا لا تزال تحت الاستغلال حتّى اليوم من فرنسا وغيرها). وكيف يمكنه أن تكون له رؤية كهذه، وهو أصلاً لا يرى -أو لا يريد أن يرى- أنّ بلاد الغرب السعيد تنهبه، وتقمعه، وتضحّي به، وبمستقبله، على مذبح أرباح شركاتها؟ إنّ وعي واقع الدول الغربيّة ودورها الوحشيّ في تدمير كوكبنا وشعوبه أساسٌ لكي نفهم أنّنا في حالة حرب علينا، وأنّنا لم ننته من الاستعمار بعدُ، وأنّ مواجهته ضرورةٌ لمن يؤمن بإله أو بفلسفة إنسانيّة. عندما يغيب الوعي يتحيّد حتّى الإيمان ومطالبته اللجوجة بمواجهة الظلم. مَن لا يرى واقع ظلم الخارج إلى جانب الظلم الداخليّ ويقاومه، يتضاءل حظّه في مقاومة الظلم الداخليّ، لأنّ ذاك الخارجيّ ضالعٌ في الظلم الداخليّ. أمّا مَن لا يرى واقع الظُّلمِ الداخليّ إلى جانب الظلم الخارجيّ ويقاومه، فقد بات حليفاً عمليّاً للظلم، واختلف فقط على هويّة الظالم. مواجهة الواقع تبدأ بالوعي، والوعي يتطلّب أن نعرف أنّنا نتعرّض لعُنفين وليس لعنفٍ واحدٍ: عنف الظلم الداخليّ وعنف ظلم الاستعمار. خريستو المر
الثلاثاء ١ تشرين ثاني/ نوفمبر، ٢٠٢٢ (المقالة الأصليّة) لم ترَ الطبقات الفقيرة مادّيًا عصرًا ذهبيًّا للبنان يومًا، كان جلّ همّها ألّا ينتهي المرتّب اليومي، أو الشهري، فيعرف أطفالها الجوع أو البرد، وكانت تنوء تحت عبء تسديد أقساط المدارس، إن استطاعت إليها سبيلًا. وإن لم يخلق الله الفقر كجزء من طبيعة هذا الكوكب، فقد أبدع رأسماليّو عصرنا في خلقه بسياسات مرسومة من خرّيجي الجامعات الأجنبيّة والوطنيّة وتجّار الكلمات في الصحف، أولئك الذين خدموا ويخدمون الذين تربّعوا على عرش الحكم في بلد معلّقٍ بين الوجود واللاوجود. لم يهتمّ خدّام بلاط المال والسلطة من المتعلّمين يومًا إلّا بما يناسب مصالح أهل البلاط من سياسيّين، وطفيليّين اقتصاديّين، ورجال دين، فحوّلوا البلاد إلى مرتع لجني المكاسب على حساب المهمّشين. مَن يأكل من كعكة الثروة الوطنيّة حتّى التخمة هو يأخذ من فم المسحوقين، لا مناص. لم ترَ الحارات الفقيرة عصرًا ذهبيًّا، ولولا الجامعة الوطنيّة لمّا خرج أبناؤها وبناتُها من الفقر يومًا. «ذَهَبُ» تاريخ هذه البلاد كان ولمّا يزل بيد حفنةٍ من المستغِلّين وخُدّامهم من الطبقة الوسطى الذين يحتاج إليهم المستغلِّون أدوات لجنيِ الأرباح، ولإعداد خُدّامِ وأدواتِ المستقبل الضروريّين لخدمة ورثة المستغلِّين. وطبقة الخُدّامِ تتضاءل مع تحوّل البلاد نفسها إلى حارات مُفَقَّرَة بسياسات معروفة النهايات: قتل بطيء لمعظم السكّان بالأمراض المزمنة وباليأس. كانت الحياةُ مؤجّلةً للذين نشأوا على تجنّب الموت بالمرور الضيّق بين أنياب الرأسماليّين، ولم تزل اليوم مؤجّلةً مع استتباب سياسات النهب التي يتبرّأ منها الجميع ويشترك بحمايتها جميع الذين يقدّمون للناس أوهام مستقبل سعيدٍ مولودٍ على أيدي الجلّادين. لن يستطيع الفقراء أكل صاروخ دقيقٍ، ولا الشرب من نفطٍ سيذهب إلى العديمي الشبع، ولا التنفّس من غاز التحاصص فوق جثث المواطنين. لا يمكن أن يتصالح رأسمال لا حدّ لشراهته مع جسم الإنسان وروحه، فشراهته موتٌ يمتصّ الحياة من الآخرين ويُبقي منهم ما يكفي ليخدموه في عمليّة جمع المزيد من الأرباح. لا، لا يتصالح الرأسمال القاتل مع الرغبة الإنسانيّة بالحياة بكرامة، هو دائمًا ضدّها. لكن المتربّعين على عروش السلطة والقدرة على القتل، يبرّرون بكلّ أشكال «الأخلاقيّات» و«الضرورات» اشتراكَهم بطريقة أو بأخرى بذبح شعبهم بسياسات الإفقار، والاعتداءات، والتهديد بالقتل، والقتل. يغسل الحكّام أيديهم من دماء مواطنيهم المسفوكة في العلن وفي الخفاء ويطلبون ممّن يرون الموت القادم في عيون أطفالهم أن يؤجّلوا حياة اليوم إلى الغد. لكنّ الإنسان لا يحيا على هذه الأرض إلى الأبد، وهو لا يملك إلّا اللحظة الحاضرة ليحيا، وما من عدالة تقول بأن يَفرِضَ القَتَلةُ وحُماتهم تأجيل عيش الحياة إلى ما لانهاية، فهي هبة أعطاها الخالق ولم يصنعها إنسان. لا يمكن اليوم تبرير تأجيل إشباع شعوبنا لجوعها الإنسانيّ إلى الاكتفاء المادّي والحرّية سوى بجهبذات فكريّة تعنّف الحسّ السليم لمطلق أيّ إنسان مجروحٍ بتراكم المظالم. قال يسوع الناصريّ يومًا إنّ وجه الله هو وجه الضعيف؛ من يمّم وجهُه وجهَ الضعيفِ وعمل كي لا تبقى حياةُ هذا الأخير مؤجّلةً، رأى ما يُمكن أن يُرى اليوم مِن وجه الله وكان مع جماعةِ الله فهي جماعةُ المحبّين؛ ومَن أشاح بوجهه عن الضعيف يعرف كلّ يومٍ في المرآة وجهَ قايين. خريستو المر
الثلاثاء 25 تشرين الأول 2022 (المقالة في الصحف) إلى جورج عبد الله لم يلتفت إلّا إلى المسحوقين، كان الزمان عنده يستيقظ من الغفلة إلى جراح المساكين. وعندما فتح الكتب ليقرأ للأولاد رأى مخالب المتخمين حول أعينهم وأمامهم ومن خلفهم، وهم ما كانوا يعلمون أنّ الجوع لا يأتي من الأعلى وإنّما من هنا من الأسفل. ربّما لم يقرأ الإنجيل، ولكنّ الهواء كان يحمل صوت جائعٍ إلى الحقّ غسل أرجل تلاميذه قبل أن يقضي فوق خشبتين خارج أسوار هذا الأسفل الذي يخاطب جلد الطفولة بالحديد. قال أغسل أرجل تلاميذي بشيء من الحقيقة، ثمّ دَلَف إلى المحشورين في جحيم المخيّم ليقيم بينهم. ربّما سمع أنّ إلهاً ضرب خيمته بيننا وأنّه أخبر يوماً أنّه سيجعل من هؤلاء المسحوقين وجهه إلى العالم؛ أو ربّما لم يسمع، لكنّه إلى الجحيم نزل كي لا يبقى المأسورون وحيدين. أراد أن يكون جسراً لهم إلى الحياة، وحين صار الجسر كسر المتوحّشون الجسر، فكانَهُ من جديد لأنّ أوجاع المظلومين سكنته فكان قلبه يرفض أن يستكين. قيل له إنّ كلّ شيء انتهى، ففتح باباً كي لا يموت وتبقى العصافير أسيرة، وراودته فكرة الخسارة، ولكنّه آثر أن يحيا ولو أسيراً مع المحرومين من أن يموت حيّاً مع المتخمين. وعند أسره قال كيانه إنّ السجّانَ بعطره الفرنسيّ عنصريٌّ، وإنّه لا يحقّ لمن يجرف الأطفال عن عشب الحياة، بالاستغلال وبالرصاص، أن يعظ بالحقّ والأخلاق. قال كيانه ذلك فصرخت شفتاه أنا حرّ منكم، أنتم الهباء، أمّا رغبة الحياة في عيون المسحوقين فحقٌّ أبديّ. وصرخت: لا يحقّ للجلّاد أن يلقي الدروسَ على ضحاياه بالعدالة، ولا ينطق داعمو الاحتلال إلّا بالخراب المختبئ في حصانٍ من دعاية. صار أسيراً، ولكنّه بقي يقرأ للأولاد الذين سكنوا عقله، للجائعين الذين سكنوا لحمه، للأمّهات اللواتي سكنّه بدموعهنّ. أمضى حُكماً لا-حقّانيّاً لا ينتهي، في بلاد الفلاسفة والحقوق. بقي «لا» واقفة تجاه يد البربريّة التي تنكّل بالإنسان بكامل وحشيّتها الأنيقة. بقي «لا» تفضح الاستعمار الذي يخرج من فمٍ يخطبُ بحقوق الإنسان ويأكل الخبز مغمّساً بدم الأفارقة والعرب وكلّ شعب تتكالب عليه أنظمة «الربح قبل الإنسان». بقي «لا» تحتجّ بضميرها لتقول ما قاله يوماً جليليٌّ قضى نحبه ليبقى حرّاً وحيّاً: ماذا ينفع الإنسان أن يربح الهواءَ الطليق والعالمَ كلَّه ويخسر نفسه أو يفقدها؟ لذلك كان الأسيرُ المناضلُ في العمق حرّاً وسجّانه السجين. قد يكون اسمه اليوم جورج عبدالله، وغداً آدم ابن حوّاء، ولكنّه يمشي داخل السجن فوق العزلة كمن يمشي على المياه، يتّجه إلى رفاقه ليهدّئ روعهم كلّما ضجّت لجّةُ التعب والخوف حول قارِبِهم الخفيف. يُضرِبُ مع المضربين عن الطعام تضامناً، فلا يكون هو وحيداً ولا يكونون وحيدين. يُشعل عقله بقلبِه فينكبّ على الكتاب وعلى اللطف حتّى ينبع لطف الإله خلف القضبان فتتجلّى السماء أخوّة في السجن الصغير. لذلك كان الأسير المناضلُ أُمّاً للحياة، لا ينام إن لم يفعل شيئاً ولو واحداً كي يُحاصَرَ الظلمُ في أيّ مكان. لذلك كان الأسيرُ المناضلُ عمودَ نورٍ، شعلةً نبويّةً تدلّ إلى أفقٍ بعيد، قريبٍ، داخلٍ، خارجٍ، ويشير إلى أمواج الحرّية والعدالة القادمة فجراً من عيون المساكين. خريستو المر
الثلاثاء 18 تشرين الأول 2022 (المقالة في الصحف) تبدو الكنيسة الرسميّة، أي الكنيسة بما هي مؤسّسات وقيادات وأناس في مواقع المسؤوليّة، تعيش حالة نكران تامّة لواقع المؤمنات والمؤمنين، وترتاح لما يتوفّر لها من امتيازات، ومال، وتبرّعات تحصّلها من مآسي مؤمنيها، وما توفّره لها بلادنا من سلطة مطلقة في إدارة شؤونها دون حسيب ولا رقيب، وحتّى من خدمات في السلطة المدنيّة توفّرها لها الدولة بحكم تناغم مصالح المال والسلطة بينهما. يرتاح «الراعي» بينما تتعب «الرعية» من ألف ذئب وذئب: ذئب السلطة المدنيّة التي تسطو على الشعب وتوفّر للقيادات تسهيلات معلومة وغير معلومة، ذئب السلطة الاقتصاديّة التي لا تشعر معظم القيادات بأنيابها، وذئب بعض القيادات نفسها وهو موضوعنا اليوم. بات العاقل يخشى أن يصبح الإنتماء إلى القيادة الكنسيّة ملجأ لكلّ مَن يريد حمايةً من ارتكاب، فالموقف الرسميّ للكنيسة عبر السنوات يدلّ على إدمان القيادات حماية الجماعة الكهنوتيّة الحاكمة بأمرها من أيّة إدانة عند أيّ ارتكاب، وتحويل القيادات – عمليّاً وليس رسميّاً - إلى جماعة خارجة عن القانون. وفي سبيل ذلك يتمّ اللغو بكلمات الإنجيل واستخدامها في غير موضعها للإيحاء بأنّه لن يُحاسب أحد لارتكاب ما، لأنّ «منطق» الكنيسة هو غير منطق العالم، وبأنّ الرحمة فيها هي الأولويّة. هكذا، يُستخدم الحقّ في سبيل تسويغ الباطل؛ فالرحمة في الإنجيل تعني أن يُفتح الباب دائماً وأبداً أمام الإنسان لكي يغيّر طرقه ويعود عن ضلاله ليحيا حياة محبّة منسجمة مع الله-المحبّة؛ لكنّ الرحمة لم تعنِ يوماً غيابَ السؤال والمحاسبة، ومواجهة الباطل بالحقّ الذي يحرّر، وإحقاق الحقّ لصاحب الحقّ، والوقوف إلى جانب المعتدى عليه والمظلوم. لقد وعظَت القيادات طويلاً، وكما يجب، بأنّ تفسير آيات الإنجيل لا يتمّ بشكل مجتزأ وإنّما يتمّ في ظلّ كامل الكتاب، بينما هم يجتزئون الإنجيل في قضايا الارتكابات، فالرحمة -التي نحتاج جميعنا إليها - لا تختصر كلّ الرسالة الإنجيليّة، بل هناك أيضاً الدفاع الأساس عن المظلومين الذين سمّاهم يسوع «إخوتي الصغار»، وجعل من الدفاع عنهم وخدمتهم معياراً لدخول الملكوت. فأين هي الكنيسة الرسميّة منهم؟ أين هو عمل القيادة الكنسيّة التي تعيد على أسماعنا كلمات جوفاء وعامّة ومُضَلِّلة حول الرحمة بينما هي لا تأبه لما يحدث للرعيّة؟ منذ أسابيع قام موقع إلكتروني بتسريب لرسالة للسيّدة هيلينا ديتكو مرسَلة إلى بريد المطرانيّة وموجّهة لمطران أميركا الشمالية (المستقيل) جوزيف الزحلاوي تشرح فيها كيف دمّرت تلك العلاقة التي دامت 17 عاماً (2000-2017) زواجها وتسبّبت بطلاقها عام 2004، وكيف سبّبت سرّيتها الأذى النفسيّ الكبير لها، وتوضح أنّها ترسلها من أجل الأجيال القادمة. تخبر السيّدة ديتكو عن تودّد المطران لها وإبلاغها في إحدى الخلوات الروحيّة أنّه «يحبّها بطريقة خاصّة» لتبدأ علاقتهما بعد عدّة أشهر؛ وتخبر عن اكتشاف زوجها لتلك العلاقة وتقديمه شكوى كنسيّة لم تصل إلى أيّ مكان بسبب سلطة المطران الزحلاوي. ثمّ تشير بحكمة لا يمتلكها القادة إلى أنّ الكنيسة ليست مكاناً للأسرار وأنّها بسبب متابعتها لبرنامج في الكنيسة الكاثوليكيّة باتت تفهم ما مرّ بها وبأنّ المطران الزحلاوي هو إنسان «ماكر ومفترس» استغلّ حالة الاكتئاب التي كانت تمرّ بها بعد الوضع. وتشير فيها إلى أنّها تعتقد أنّ المطران الزحلاوي كان يقيم علاقات عديدة مع نساء أخريات، وأنّها مصدومة بأنّه حاول مجدّداً التواصل بها في ربيع 2022 تاركاً لها رسالة صوتيّة. وتطلب منه أخيراً ألّا يعاود الاتّصال بها مجدّداً. علاقات الناس الشخصيّة لا تعنينا، لكن هناك ما يتجاوز حياة المطران الشخصيّة، المشكلة أنّ السيّدة عملت عنده سكرتيرة، وعندها يصبح من الضروريّ أن يتمّ التحقيق إن كان المطران الزحلاوي استخدم سلطته الوظيفيّة، وسلطته الروحيّة، ليستغلّ تلك السيّدة، وعن الظروف التي حكمت تلك العلاقة، خاصّة أنّ السيّدة تذكر في رسالتها أنّها كانت تمرّ بظروف الاكتئاب التي تجعلها في وضع قابل للاستغلال، وتتّهم المطران بأنّه «مفترس» واللفظة تُطلَق على رجال دين يقومون بمحاولات مستمرة لإساءة استخدام السلطة أو المنصب لاستغلال الآخرين جنسيّاً. كما أنّها تذكر اعتقادها بوجود نساء أخريات. هل تمّ استغلال الموقع الكنسيّ للمضايقة في الوظيفة؟ هل تمّ استخدام الموقع الروحيّ الكنسيّ لاستغلال السيّدة ديتكو ونساء أخريات؟ هل من تصرّف «مفترس»؟ لا نعرف اليوم، ونشكّ أنّ أحداً من القيادات طرح السؤال على نفسه. كيف يمكن تفادي هكذا أوضاع في المستقبل؟ كيف يمكن حماية الناس؟ كالعادة، لا أحد من القيادات يأبه. البطريرك نشر رسالة قال فيها إنّه سيتابع الموضوع ويبلّغ عن الخطوات المناسبة بكلّ «شفافية». وأعلن المشرفون على إدارة الكنيسة في أميركا الشماليّة أنّهم عيّنوا شركة محاماة للقيام بتحقيق «مستقلّ». «الشفافية» ظهرت البارحة في تسريب التقرير السرّي للتحقيق «المستقلّ» والذي تقول فيه شركة المحاماة باستخفاف وقح، وبعد أن قامت بسؤال بضعة أشخاص، ومقابلة السيّدة، بأنّ الموضوع لا يتعدّى كونه اتّهامات دون أدلّة من نوع «هو قال» و«هي قالت»، موحية بأنّها استنتجت أنّ الموضوع لا أساس له مع أنّها لم تُنه التحقيق! وأشار التقرير إلى وجود تقريرٍ آخر منذ عام 2005 لا يبدو عليه أنّه وصل إلى نهاياته. وينصح أخيراً بأن يبقى التحقيق سرّياً لأنّه يمكن أن تستخدمه السيّدة، وربّما موظّفون آخرون، لرفع دعاوى مضايقات وتحرّش خلال العمل. وأخيراً يحذّر من أنّ هناك قانوناً قد يُقَرّ في ولاية كاليفورنيا يسمح بأن تُرفَع دعاوى حول تحرّشات ومضايقات في العمل حتّى ولو كانت قديمة زمنيّاً. وماذا عن تحقيق شركة المحاماة مع المطران؟ لا شيء. يذكر التقرير بأنّه لم تتمّ مقابلة المطران لأنّه طُلِبَ من الشركة الكفّ عن التحقيق لأنّ المطران استقال. و«يا دار ما دخلك شرّ». شركة المحاماة الفذّة لا تُكمِل التحقيق، ولكنّها تستنتج بأنّ الموضوع مجرّد قيل وقال، وعلى الأرجح أنّ مَن طلب منها التحقيق طلب التوقّف عنه! لدينا كلّ ما من شأنه أن يوحي بأنّ مَن عيّن شركة المحاماة أراد أن تصل إلى ما وصلت إليه: طمر الموضوع بكلّ «شفافية»، زيادة في «الرحمة» تجاه القيادات وفي الذئبيّة تجاه الرعيّة. خريستو المر
الثلاثاء 11 تشرين الأول 2022 (المقالة في الصحف) «متى استعبدتُمُ الناس، وقد ولدتْهُم أمّهاتهم أحراراً»، جملة عمر بن الخطّاب هذه فذَّةٌ ومعروفَةٌ. الحرّية من أسس الوجود الإنسانيّ، وانتزاعُها مِنه محاولة لدفع الإنسان نحو التشييء، نحو التعامل معه كشيء من دون كرامة، كوسيلة وليس كغاية وكقيمة بحدّ ذاته، وتشييء الإنسان ترفضه الفطرة، ولا يمكن قبوله في ظلّ الفلسفة الإنسانيّة أو الإيمان بالله. لا يمكن التقليل من أهمّية الحرّية في العلاقات الإنسانيّة، سواءٌ أكانت فرديّة أم اجتماعيّة. ولهذا لا يمكن إلّا إدانة كلّ قهر وتسلّط، سواء أكان على صعيد العلاقات الفرديّة داخل العائلات، أم العلاقات الاجتماعيّة داخل المجتمعات والدول، سواء أكان القهر توسُّلَ التهديد أم السجن أم التعذيب، كما هو منتشر في ظلّ حكومات القمع في بلادنا. هذه الإدانة يَضرب بها عرضَ الحائط أحزابٌ وكتّابٌ على أساس أنّ هناك أولويّات صراع أخرى «حاليّاً»، ولكنّ هذا مردودٌ، فحقيقة واقع المنطقة أنّها ستبقى في صراع مع إمبراطوريّات الاستغلال طالما بقي البشر أحياء على هذه الأرض. العالم الاستغلاليُّ (أوروبا وأميركا الشماليّة أساساً) الذي يسعى إلى مراكمة الأرباح على حساب حياة البشر وكرامتهم (أفريقيا، بلادنا، فقراء الدول الغنيّة)، صوتُه عالٍ جدّاً في إدانة أنظمة القمع، ولكن في البلدان التي تناوئه فقط، ويصمت إعلاميّاً عن القمع في البلدان الخاضعة لمصالحه، بل هو يمارس قمع الشعوب حين يُنَصِّبُ القامعين والديكتاتوريّين ويدعمهم من أجل استتباب سيطرته، أو حين يضرب بلداناً بأكملها بالعقوبات الاقتصاديّة لكي تخضع لإرادته بحيث لا تتمكّن من تقرير مصيرها بنفسها. العالم الاستغلاليّ يمارس القهر والتسلّط، ولكنّه يخفي ذلك بدخان إعلاميّ ضخم من الكلام على الديموقراطيّة والحرّية اللتين يسمح بممارستهما إلى حدّ ما داخليّاً، ويحاول تقييدهما إن هما ناوأتا مصالح المتموّلين فيه، والتقييد الكبير يكمن في تغييب كامل لفكرة تراكم الثروات بواسطة الاستغلال عن الإعلام، على الأكثر هناك نقاش لمساعدة الفقراء دون تحليل لأسباب الفقر. الحرّية التي نتكلّم عليها هنا هي أساساً حرّيةُ التفكير والتعبير والتصرّف، وبالطبع هي غير مطلقةٍ وإنّما محكومة بقوانين تضبطها تمنع، مثلاً، خطاب الكراهية والعنصريّة... لكنّ ما يغيب عن النقاش والإعلام بشكل شبه مطلق هو حقّ الحرّية من الاستغلال. الإنسان الخاضع للاستغلال لا يحيا بحرّية، هو أساساً إنسان مقهور، غير حرّ بأن يحصل على عمل يؤمّن له الحياة بكرامة، وبالتالي لا يمكنه أن يأكل ويشرب بشكل مناسب، ولا أن يحيا بصحّة جيّدة، ولا أن يسكن في منزل مناسب. ما هي حرّية إنسان يعمل بأجر لا يسمح له بأن يؤمّن غذاءً كافياً لنفسه ولعائلته، ولا يسمح له بتأمين دواء؟ ثمّ إنّ الاستغلال يقهر حتّى حرّية الإنسان في التعبير، فضغط الرأسماليّين أصحاب العمل على العمّال للصمت عن أوضاعهم المزرية معروف، وكذلك ضغطهم لدعم تيّار سياسيّ، وهذا التقييد لحرّية التعبير ناتج أساساً من الخوف من فقدان العمل. قلب الاستغلال هو التحكّم بحياة البشر واحتقارها في سبيل جني الأرباح، هو اعتبار البشر أدوات جني أرباح، كما تدلّ كلمة «مُستخدَمين» التي تعني بوقاحة أنّ العامل وسيلة بيد «المستخدِم». الاستغلال يضرب حرّية الإنسان، ولكنّ الصمت عن ذلك كبيرٌ في بلاد حرّية التعبير، لأنّ الديموقراطيّات الرأسماليّة تريد سكوتاً في الإعلام المتداول حول استغلال الرأسماليّة للناس، وتغذّي حكاية وهميّة عن إمكانيّة الثروة المتاحة لجميع المجتهدين، وعن ضرورة مساعدة «الأقلّ ثراءً»، وهي عبارة محبوكة حبكاً لتخفي الاستغلال وتحيّد الوعي. منذ سنوات ظهر في لبنان، ولأغراض سياسيّة، شعارٌ جميلٌ رفعه سياسيّون منافقون هو «محبّة الحياة». مَن يحبّ الحياة حقّاً يحبّ الإنسان، ومَن يؤمن حقّاً بالله أو بفلسفة إنسانيّة يحبّ الإنسان. المعيار الوحيد لصدق الإيمان بما لا يُرى هو محبّة الإنسان الذي يُرى؛ ولهذا يرفض المؤمن تحويل الإنسان إلى شيءٍ، يرفض أن تُضرَبَ حرّيته، فيقاوم البطش السياسيّ والبطش الاقتصاديّ، ولا يتوانى عن إدانتهما كِلَيْهما. إنّ تشييء الإنسان قائم في التسلّط كما في الاستغلال، لأنّ كليهما يسحقان الإنسان ويتعاملان معه كشيء. لهذا، فمحبّة الحياة تقتضي الدفاع عن الكرامة الإنسانيّة بإدانة ومقاومة ليس التسلّط الخارجيّ فقط، وإنّما الداخليّ أيضاً، وليس التسلّط فقط وإنّما الاستغلال أيضاً. مَن يؤمن بالله أو بفلسفة تقول عن نفسها إنّها إنسانيّة، يحبّ الحياة حقّاً حين يحبّ الإنسان حقّاً، ويسعى إلى تأسيس أنظمة تحترم حرّية التعبير وتسمح بالمشاركة بثروات الأرض، أنظمة تحرّر الإنسان من القهر المادّيّ والمعنويّ، لأنّها لا تسمح بمقاربة الإنسان كوسيلة بل تسعى إلى أن يكون هدفاً، وتُفسحُ مجالاً للإنسان لينمو إلى ملء قامته بحرّية، وأن تتجمّل هذه الأرض بأنوار السماء أو بالمبادئ الكبرى، فتتجلّى عالمَ مشاركة، يؤمن بالحرّية كاملةً. خريستو المرّ
الثلاثاء ٤ تشرين الأوّل / أوكتوبر ٢٠٢٢ (المقالة الأصليّة) مَن يقرأ بطريرك روسيّا كيريل يعلنُ أنّ مَن يدافع عن بلاده ويموت في الحرب «تُمحى خطاياه»، بعد أن أعلن منذ سنوات الناطق الرسميّ باسم الكنسية الروسيّة الأرثوذكسيّة أنّ حرب روسيّا في سوريا هي «حرب مقدّسة»؛ يتساءل عمّا سيؤول إليه الخطاب من تردٍّ إن نشبت حرب عالميّة ثالثة. تاريخيًّا، منذ دخول الامبرطور قسطنطين المسيحيّة، لم تدعُ الكنيسة المسيحيّين إلى ترك الجنديّة أو الحياة العامّة. بقي الأساس العام أنّ «الخلق كلّهم عيال الله» بسبب من أبوّة الله الخالق، وكلّ قتل هو شرّ وهو أيضًا قتل يحدث بين إخوة. الموقف هو أنّه بالرغم من أنّ استفحال الشرّ قد يتطلّب الحرب، وبالتالي القتل، فإنّ القتل بحدّ ذاته يبقى شرًّا ولا يغدو خيرًا بمجرّد الاضطرار إليه؛ أي أنّه شرٌّ لا بدّ منه. ولهذا كانت الكنيسة الأرثوذكسيّة البيزنطيّة تُخضع العائدين من الحرب إلى مسار من التوبة بسبب اضطرارهم إلى القتل في الحرب. من أجل ذلك لم تعرف الأرثوذكسيّة في لاهوتها عبارات مثل «الحرب المقدّسة». لا يوجد في الإنجيل، ولا في تاريخ الكنسية الأرثوذكسيّة، ما يمكن الاستناد إليه للقول بحرب مقدّسة، مهما كانت تلك الحرب ضروريّة ودفاعيّة، فكيف إن لم تكن؟ فالقدّوس الوحيد هو الله الذي تراه المسيحيّة محبّة، وبالتالي لا قداسة خارج المحبّة المتمثّلة بيسوع المسيح الذي مات حرًّا مدافعًا عن مبادئه وشاهدًا للحقّ، ومن أجل ذلك قُتِلَ ولم يَقْتُلْ في موقفٍ يشبه ما ورد في القرآن «لئن بسطتَ إليّ يدك لتقتلني، ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك» (المائدة). لذلك، فالموقف الرسميّ للكنيسة الأرثوذكسيّة بقي أنّ المقتولين من أجل الإيمان وحدهم يُدعون شهداء. أمّا الغفران فهو عمليّة تتمّ بناء على مسار رجوع عن «خطيئة» (والكلمة تعني حرفيًّا: إخطاء الهدف)، رجوع إلى خطّ المحبّة وهدفها. لكنّ البطريرك كيريل، في محاولته دعمَ قومه وموقف بلاده السياسيّ والعسكريّ، وصل إلى حدّ توزيع نوع من صكوك غفران. في ماضٍ سيّء الذكر، كان الباباوات يعطون صكًّا لغفران الخطايا مقابل التبرّع بمبلغ من المال، واليوم البطريرك كيريل يطلب أكثر، يطلب الحياة البشريّة أضحيّةً على مذبح السلطة المدنيّة مقابل صكّ غفران وهميّ. هو يذهب أبعد من بعض باباوات الماضي، باستخدام حياة الإنسان ثمنًا لمفتاح للجنّة ابتكره هو خدمةً للسلطة المدنيّة، وبهذا هو ينقلب على دوره كبطريرك، فدوره أن يشهد لكلام الإنجيل، ولو كان على تعارض مع السلطة المدنيّة ليُبقي على استقلال المجال الإيمانيّ عن المجال السياسيّ ولا يصبح خادمًا في بلاط الدولة ولمصالحها. لدينا من الجانب الآخر البطريرك الأرثوذكسيّ المسكونيّ برثلماوس في إسطنبول، يخدم ما يوافق بلاط الولايات المتّحدة الأمريكيّة، فسرعان ما وافق عام ٢٠١٩ منفردًا، وبطريقة مخالفة للقوانين الكنسيّة، على خلق كيان كنسيّ في أوكرانيا ينفصل عن كنيسة موسكو، أي على شقّ الكنيسة الروسيّة لتصبح كنيستين كلّ في بلد. وكانت الولايات المتّحدة تدفع للانفصال وتدعمه بشكل علنيّ بشخص وزير الخارجيّة الأميركيّ حينها بومبيو الذي كان أوّل وزير خارجيّة أميركيّ يزور خلال ولايته البطريركيّة المسكونيّة. إنّ البطريرك المسكونيّ نصّب نفسه في مخالفة فاضحة للّاهوت الأرثوذكسيّ رئيسًا للعالم الأرثوذكسيّ كلّه، خارقًا بذلك القوانين الكنسيّة التي لا تقبل إعلان استقلال كنيسة جديدة إلّا بموافقة جميع الكنائس. هذا فيما البطريرك الأوكرانيّ المنصّب حديثًا على كنيسة أوكرانيا المنشقّة غارق حتّى أذنيه في لعبة القوميّة الأوكرانيّة والكراهية. الكنيستان المسكونيّة والروسيّة تتصارعان على ترؤّس العالم الأرثوذكسيّ، والكنيستان غارقتان في عبادة قويميّتيهما اليونانيّة والروسيّة، وتعلنان أنّ لغتيهما الصلاتيّتين «مقدّستان». البطريركان يعملان على توظيف الإله في خدمة الموت والحرب، فالبطريركان ضالعان في توظيف الكنيسة لخدمة بلاط السلطة السياسيّة والعسكريّة. الإمبراطوريّة الأميركيّة من جهة والقوميّة الروسيّة من جهة أخرى. كلتاهما تستعملان بلادنا بيادق لمصالحهما، وهما متصالحتان مع الكيان الصهيونيّ، وتدعمانه وترتاحان إليه. هذا فيما بلادنا تضمحلّ، ويستمرّ بطاركة الشرق في ترداد كئيب لخطابات رتيبة باهتة فارغة من الحياة، ويتابعون صمتًا معيبًا عن قمع واستغلال السلطات السياسيّة، مطبّعين مع الظلم ومتطبّعين به، مقابل التمتّع بالسلطة الكنسيّة والانشغال بمهمّات «كبرى» مثل وضع الأسقف المطيع في المكان المناسب للسلطة الدينيّة، وحماية السياسيّين والمرتكبين من مطارنة وكهنة ورهبان، في رقصة دينيّة-سياسيّة همجيّة فوق أشلاء الأوطان والناس. كلّ هذا يتمّ في كنيسة مات سيّدها الوحيد، في عري الفقراء والمهمّشين، خارج أسوار السلطة، وعاش في خدمة الفقراء، وعلّم أنّ السيادة بالخدمة لا بالتسلّط، وأنّ الذين يدعون أبناء الله هم صانعو السلام. خريستو المرّ
السبت ٢٤ أيلول / سبتمبر ٢٠٢٢ (المقالة في الصحف) لا يوجد عيش حقيقيّ للإيمان دون حرّية. الإكراه، القسر، ينفي الصدق في التصرّف والقول ويدفع الإنسان دفعًا إلى تزوير وجوده، إلى الانشطار، إلى العيش في ازدواجيّة، بحيث يعيش على الصعيد الظاهر قولًا وتصرّفًا في حالة مفروضة بالإكراه، وعلى الصعيد الفكريّ والشعوري في حالة معاكسة. الإكراه يدفع لا محالة إلى النفاق. لكنّ النفاق لا يتوافق مع الإيمان، وكيف له أن يتوافق؟ قد يدخل الإنسان في دين ويتّبع جميع الطقوس وتبقى الشخصيّة بعيدة عن مقتضيات الإيمان. جذر الإيمان لا يكمن في اتّباع الطقوس ولا في الدخول في دين، وإنّما في العلاقة الصادقة بالله، وهذه العلاقة لا يمكن لها أن تتمّ بشكل صحيح إلّا إذا انعكست في علاقة صادقة للإنسان بغيره، وعلاقة صادقة للإنسان بنفسه بحيث يتوافق فيه ما يضمر وما يُبدي، دون ازدواجيّة. الطقوس تعبير عن العلاقة بالله وبالآخرين وبالذات، وتجذير لها، لكنّها ليست الأصل. في الأصل كان الاهتداء، والاهتداء لا يكون بالقسر، كلمة الاهتداء نفسها منافية للقسر. الاهتداء يعني اكتشافا وقبولا شخصيًّا لما يتلمّسه الإنسان بكيانه، أي بعقله ونفسه ووجدانه، في جوّ من الاحترام لحرّيته كإنسان. بالاهتداء تبدأ العلاقة بالله وتستمرّ بألف طريقة وطريقة، منها الطقوس، ولكنّ محكّها هو العلاقة بالآخر الإنسان وحياته، والعلاقة لا يمكن أن تكون سليمة إن لم تكن صادقة، ولا يمكن أن تكون صادقة إن لم تكن حرّة. العلاقة بالله، محبّة الله التي منها تنبع عبادته، تفترض الحرّية شرطًا، لا يوجد محبّة دون حرّية. الدولة شكل من الحياة الاجتماعيّة أدواته القسر (قانون، شرطة، قضاء، إلخ.). مشكلة الدولة الدينيّة أنّها تفترض أنّها لها أن تدخل في حيّز الإيمان الشخصيّ، وهي حين تدخله لا يمكنها أن تفعل ذلك إلّا بأدواتها، أي بأدوات القهر. حين تستخدم الدولة أدواتها لتفرض على إنسان الامتناع عن الضجيج في منزله في منتصف الليل، مثلًا، فهي تحدّ بالقسر من حرّيته بأن يفعل كلّ ما يشاء، ولكنّها لا تتدخّل في علاقته بالله؛ هي فقط تحدّ من جوامح نرجسيّته وتدفعه للأخذ بعين الاعتبار حياة غيره، مهما كانت علاقته بهم. أمّا حين تتدخّل لتفرض على إنسان طريقةَ لباس، أو صيامًا، أو صلاةً، فإنّها تتدخّل في علاقة ذاك الإنسان الفريد بالله وفي قناعاته النابعة من وجوده الذاتيّ الفريد، هي بالقسر تريد لو استطاعت أن تجبره أن يتصرّف بطريقة محدّدة تبعًا لتفسيرات الدولة للدين، وهي بالضرورة تفسيرات ظرفيّة وجزئيّة طالما أنّها لا تمثّل كلّ الأزمان (لا تمثّل ما سيقوله البشر في المستقبل) ولا تمثّل جميع الطوائف ولا جميع التفسيرات في طائفة معيّنة. وفي النهاية، ومهما كانت تلك التفسيرات الدينيّة صحيحة، فالدولة بأدواتها القسريّة تتدخّل بعلاقة ذاك الإنسان بالله: هي تحدّ من حرّيته في أن يؤمن أو لا يؤمن، وأن يحيا علاقته بالله كما يراها هو لا كما يراها غيره، وأن يتحمّل مسؤوليّته عن إيمانه الذاتيّ أمام الله. هي -مهما قلنا وبرّرنا- عدم اعتراف بالوجود الذاتيّ الشخصيّ الفريد لكلّ إنسان، ومحاولة سحق لها. وإن كان القسر آتيا من الدولة، أم من مجموعة من الناس، فإنّ الأمر سيّان فالنتيجة واحدة: إجبار الإنسان أن يتصرّف في موضوع الإيمان بحسب ما يراه غيره، أي بحسب النفاق لا بحسب الصدق. وأيّ منطق هذا الذي يرضى باستتباب النفاق وسط جماعة تريد أن تكون مخلصة لإيمان، ومحامية عنه؟ الدولة - وهي قاهرة حُكمًا – كما والجماعات القاهرة، حين تتدخّل بعلاقة الإنسان بربّه، يمكنها أن تضمن انصياع الجميع للعلاقات الظاهريّة، ولكنّها بالتأكيد تخلق البيئة الحاضنة للنفاق الإيمانيّ وتزوير الوجود، وهذا من شأنه أن يُفسِد العلاقة الإيمانيّة بين الإنسان وخالقه التي لا يمكن أن تكون حقيقيّة إلّا إذا كانت حرّة. الإكراه في الدين يُنتج النفاق الدينيّ، وهذا بلا شكّ يُبعِد الإنسان عن الله. قد تُسعَدُ الجماعات القاهرة بسطح المظاهر، ويغيب عنها أنّها خلقت كلّ الظروف لتبقى القلوب بعيدة عن الله، وماذا ينفع الإنسان لو عاش المظاهر كلّها وخسر نفسه أو فقدها في التزوير الذي يُنتِجُهُ القهر في العلاقات. وحدها الحرّية تسمح بالصدق والقناعة في العلاقات، وتحترم فرادة كلّ إنسان. خريستو المر
الثلاثاء 20 أيلول 2022 (المقالة في الصحف) أطلّت فرقة ميّاس الراقصة في برنامج تلفزيونيّ وتابعها من يتابع فنّ الرقص عادة ومَن لا يتابعه؛ ولعلّ الإحباط العام الذي تعيشه البلاد دافع قويّ لتلمّس أمرٍ جميلٍ يضيء في العتمة النفسيّة الحالكة. وقد توسّل مصمّمو الرقص في الفرقة الثقافات الشرقيّة في تصاميمهم الجميلة. مَن شاهد العروض، لا بدّ أنّه لاحظ استخدام الفرقة رموز الأساطير الدينيّة (الحيّة مثلاً). الأغلبيّة الساحقة من الناس فرحت بعروضِ هذه الفرقة الجدّية ونجاحها. فما الذي يدفع بأصوات دينيّة مسيحيّة (لم أقرأ لأصوات دينيّة مسلمة وهذا لا يستبعدها) إلى التهجّم على الفرقة من باب عبادة الشيطان؟ تجنح قيادات دينيّة على جميع المستويات إلى فرض رؤيتها الخاصّة لما هو مسموح وممنوع في الفنّ، فترفع شعار المسّ بالمشاعر الدينيّة كلّما تناول عمل فنّي شيئاً من الدين بطريقة لا تعجبهم أو يشعرون بأنّ فيها مسّاً بشعائر أو عقائد؛ والمركز الكاثوليكيّ للإعلام في لبنان له اليد الطولى في طلبات منع الفرق الفنّية التي تجرح الشعور الديني المرهف للأب أبو كسم وصحبه. لكن التحامل على فرقة ميّاس بلغ مبلغاً كبيراً بتهمة التعامل مع الشيطان، واعتقادي أنّ السبب يكمن في كونهنّ نساءً. عبر العصور، تحاملت الكنيسة على النساء؛ حتّى اليوم، هناك جبل كامل مليء بالأديرة في اليونان ممنوع أن تدخله امرأة، ونجد بين القصص الرهبانيّة التي يتناقلها بعض الرهبان قصّة تصف المرأة بالشيطان (المقصود أنّ وجودها نفسه تجربة للرهبان «المساكين»). لكنّي أفضّل قصّة رهبانيّة أخرى ذات دلالة في موضوعنا: يُحكى أنّه أثناء الصوم جاع راهب في أحد الأديرة، فدخل المطبخ سرّاً ومعه بيضة، وبات يضعها فوق الشمعة الموجودة في المطبخ لطهيها (لا تسألوني كيف)، وعندما فاجأه رئيس الدير في المطبخ ندم، وقال له بسرعة «الشيطان جرّبني»، فإذا بالشيطان يظهر ويقول لرئيس الدير «لا تصدّقه، أنا كنت أتعلّم منه». هناك خوف قديم لدى الرجال من النساء يشير إليه التحليل النفسيّ، شيء من الرهبة والحسد كامن في نفس الرجل من هذا الكائن القادر على أن يلد إنساناً جديداً في العالم. يُضاف إليه أمر أهمّ، هو خوف الرجل الذي لم يعرف كيف يتصرّف مع طاقته الجنسيّة فكبتها (وشتّان بين الكبت والضبط) وتعامل معها كطاقة هوجاء مخيفة فحاول التهرّب منها بطردها من مجال الوعي ووضعها في زاوية مظلمة من النفس. فإذا بالطاقة الجنسيّة مستبعدة ومنفصلة عن مجمل الشخصيّة، فتبقى طاقة هوجاء عوض أن تتهذّب بالحنان وبالعلاقة الإنسانيّة مع آخر مُعتَرَف بكيانه المتمايز والحرّ. وإذا بالجنس المكبوت يطفو إلى الوعي، ويقفز إلى سطح النفس بوضعه الفجّ، كلّما كان الرجل أمام إنسان آخر (امرأة في حديثنا) يثير فيه الرغبة فيراه مجرّد جسد، وجسدٍ مغوٍ بالضرورة إذ إنّ الرغبة الجنسيّة تتصاعد من الأعماق المكبوتة بحالتها الفجّة، العشوائيّة، الاستهلاكيّة. عندها، تجتاح ذاك الإنسان مشاعر الاضطراب والخوف، وتتحوّل إلى غضب ورغبة بتبرير الذات والعقلنة، فيُسقِط على الآخر نوازعه الخفيّة، ويتصوّره ويصوّره على أنّه هو الذي يتقصّد الإثارة والإغراء، وأنّه شيطان يحاول أن يوقعه هو «البريء» بالخطيئة، بل وينسب إلى موضوع شهوته اقتداراً مرعباً ويعتبرها أصل الشرور (تذكّروا قصّة آدم وحوّاء مثلاً). وكلّما زادت حدّة الرغبة زادت حدّة ردود الفعل، وكلّما تهرّب الإنسان من مشاعره بإسقاطها على الآخر زادت حدّة التهجّم على ذاك الآخر. هذه الأواليّات التي شرحها لنا علم التحليل النفسيّ لا تزال قائمة، وهي في السابق دفعت كنيسة يقودها رجال إلى التحامل على النساء وارتكاب الفظائع بحقهنّ، أثناء الحملة على مَن تخيّلتهم أنّهم «سحَرة». إنّ الذين نكّلت بهم الكنيسة بشكل وحشيّ بيد رهبان ساديّين كانوا خاصّة من النساء، إذ كانت الكنيسة تنكّل وتقتل خمسين امرأة، مقابل كلّ رجل واحد. وقد كان التنكيل وحشيّاً وبالغ القسوة، إذ كان حكم الإعدام يتمّ خنقاً أو حرقاً. وقد تعرّض الألوف من الأبرياء للإبادة الكنسيّة المنظّمة، وكان التنظيم رسميّاً إذ وضع راهبان، بطلب من البابا، عام 1486، دليلاً كنسيّاً يبيّن وسائل الكشف عن «السحَرة» المزعومين، وكيفيّة إجراءات المحاكمة وماهيّة الأحكام الضروريّة. هكذا قتلت الكنيسة ما يقدَّر بـ 40 ألفاً إلى 60 ألف امرأة بتهمة التعامل مع الشيطان. إنّ التهجّم على فرقة ميّاس هي الظاهرة نفسها تعود في حقبة ليس باستطاعة رجال دينٍ رعاعٍ مكبوتين من حرق النساء، وإلّا لرأت نساء فرقة ميّاس المصير نفسه الذي لاقته أخواتهنّ في الجنس اللواتي أحرقهنّ رجال مكبوتون يسقطون حدّة رغباتهم الذاتيّة على نساء لا حول لهنّ ولا قوّة. الحمد لله الذين منحنا العقل لنتقصّى به أسباب الظواهر، وأمدّنا كبشر بما هو ممكن من الحكمة لنستطيع التمييز في أيّامنا بين اللبوس الدينيّ والإيمان الأصيل، بين الكبت حين يهذي والعلم حين يفحص، بين استخدام الدين للتسلّط وبين استخدامه لخدمة الإنسان. من ناحيتنا، نتمسّك بحرّية الإنسان التي شاء الله - بحسب المسيحيّة - أن يخلقها ويحترم حتّى رفضها له. إنّ فرقة ميّاس بقدرات الراقصات والمصمّمين، حملت إلينا جمالات في لوحات ساحرة مستوحاة من آلاف السنين من الرهبة والتلمّس لسرّ الخلق والحياة، وأفرحت معظمنا بذلك. |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
November 2022
Categories |