نظام القتل: فلنُسَمِّ الأمور بأسمائها

نظام القتل: فلنُسَمِّ الأمور بأسمائها
الثلاثاء ١٠ كانون أوّل/ديسمبر 2019

في الأسبوع الماضي انتحر أكثر من شخص في لبنان في ظلّ الأزمة الاقتصاديّة وحالات الفقر المستشرية؛ واليوم استيقظنا على خبر وفاة أخّين انهار منزلهما في مدينة الميناء -طرابلس.
هاتين الجملتين هما من لغة الجرائد والسياسيين، ولو أنّهما بدتا صحيحتين فهمت مُضلِّلتين جدًّا. وسنوضح لماذا.
توقّعَ البنكُ الدولي (وهو غير محبّ للشعوب) أن تزيد نسبة اللبنانيّات واللبنانيّين الذين هم تحت خطّ الفقر من ٣٠٪ إلى ٥٠٪ خلال أشهر. نسبة ٣٠٪ توصّلت أيضًا إليها دراسة لبرنامج الأمم المتّحدة للتنمية، على أساس أنّ خطّ الفقر هو ٤ دولارات في اليوم، وهو رقم جدّ منخفض! ممّا يعني أنّ نسبة الفقر هي أكثر بكثير من ٣٠٪؛ وبالفعل في دراسة أخرى استعملت مزيجًا من مؤشّرات تقيس مستوى الدخل والعلم والسكن وصلت نسبة الفقر إلى ٥١٪ (من هنا أهمّية أن نعرف كيف تحدّد كلّ دراسة خطَّ الفقر). في المقابل ١٧٪ (تقريبا واحد من خمسة) من اللبنانيّات واللبنانيّين يعانون من مشاكل في الصحّة النفسيّة؛ أي بين كلّ ٥ لبنانيين ولبنانيّات حولك هناك على الأقلّ واحد يعاني من توتّر أو اكتئاب أو إجهاد عصبي، إلخ.
لكن ماذا يعني ذلك لنا؟ هناك ضرورة لاستخدام التعابير بدقّة في أيّ وقت وخاصّة أثناء القيام بالعمل الاجتماعيّ والسياسي، وذلك للفهم، والتصرّف بناء على الفهم.
الفقر هو كلمة نصف فيها الواقع الاقتصاديّ لشخص أو عائلة، ولكنّ في عصرنا الحاليّ نعرف (ولو أنّنا ننسى أحيانا) أنّ الفقر ليس عملا من أعمال الطبيعة وليس هو حالة حتميّة في المجتمع، الفقر هو نتيجة سياسة اقتصاديّة محدّدة لأشخاص محدّدين يحكمون البلاد، وبالتالي الفقر كواقع هو نتيجة عمليّة تفقير، هو عمل يقوم به أشخاص محدّدون، هو أذى يقوم به أشخاص محدّدون. وبالتالي كلّ ما ينتج عن الفقر مسؤول عنه الأشخاص الذين يقومون لهذا الأذى هؤلاء الذي في الحكم ولم يفعلوا شيئا لمواجهة الفقر الذي تسبّب به من سبقهم، بل وضعوا السياسات لاستتبابه ولتوسّعه. الفقر هو أذى والسياسي-الاقتصاديّ المسؤول هو المؤذي.
نتائج الفقر تأتي في عدّة أشكال ولها عدّ آثار:
- الجوع: الذي يؤدّي إلى قلّة التغذية وعند الأطفال يؤدّي إلى ضمور في غذاء الدماغ وتحفيزه وبالتالي إلى عدم مجاراة الأغنياء في الدراسة والنجاح العلميّ.
- المرض: إنّ ارتباط المرض بمستوى دخل الفرد والضغوط النفسية الاجتماعية الناتجة عن الفقر، أمر مفروغ منه. عندما تسكن في مكان كلّه رطوبة لا بدّ ان تصاب بمرض، عندما لا يمكنك أن تشتري المآكل الصحّية الباهظة الثمن ستأكل الطعام الذي يؤدّي إلى السُمنة والسكّري، إلخ.
- الموت: لم أجد إحصاءات من لبنان. في كندا تشير الإحصاءات إلى الاشخاص الأدنى دخلاً هم بالمقارنة مع الأكثر دخلاً، أكثر عرضة للموت بأمراض القلب والسرطان، والسكري، وأمراض الجهاز التنفسي، بنسب تتراوح بين ٣٠٪ و ٢٦٤٪. إنّ تعقيدات الأمراض تؤدّي في النهاية إلى الموت المبكّر، والأمراض مرتبطة بالفقر ،كما رأينا. كما أنّ الظروف المادّية للإنسان تؤدّي إلى نقص معدّل العمر، فمثلاً، تشير التقارير إلى أنّ معدّل عمر الإنسان السوريّ عند ولادته قد تراجع ٢٠ سنة عام ٢٠١٤ فأضحى ٥٥ عامًا بعدما كان ٧٥.
إذاً، علينا أن نعبّر بطريقة أكثر دقّة عندما نناقش أوضاع الناس في المجتمع، عندما يموت إنسان فقير من السرطان، أو السكّري أو أمراض الجهاز التنفّسي، أو غير ذلك، فهذا الإنسان لم يمت وإنّما قُتِل.
وبما أنّ المعلومات التي أوردتها والتي تدرّسها الجامعات ويكتبها الباحثون في لبنان وخارجه، تجعلنا نعلم بما لا يدع مجالا للشكّ بأنّ هذا الأذى الذي ندعوه بالتفقير (وليس بالفقر)، والذي يقوم به أشخاص محدّدون يحكمون في السياسة والاقتصاد، سيسبّب الموت المبكّر، فهو إذا عبارة عن عمليّة قتلٍ عمد، مع سابق التصوّر والتصميم بواسطة السياسة الاقتصاديّة بالذات.
هذا الذي ندعوه نهبًا يجب أيضا أن ندعوه أيضًا قتلاً. إنّها سياسة النهب والقتل، والقائمون عليها ليسوا بأقلّ من مجرمين ويجب أن يحاكموا على هذا الأساس، وأن يُسَمّوا على هذا الأساس. ومَن لم ينهبْ فقد كان مشاركًا بالجريمة بالصمت عنها وبالتسهيل لها، والمشارك والـمُسهّل للجريمة مسؤول أيضًا.
الجملتين اللتين افتتحت بهما المقالة يجب أن تعاد صياغتهما كالتالي: في الأسبوع الماضي ساهم حكّام لبنان بواسطة سياسة التفقير المؤذية جسديًّا ونفسيًّا، والتي انتهجوها عن سابق تصوّر وتصميم، بتوفير الظروف التي دفعت أكثر من شخص في لبنان إلى انهاء حياتهم؛ وقد قتل هؤلاء الحكّام عن عمد بواسطة سياسة التفقير المؤذية ذاتها، مواطِنَين شابّين في مستهلّ حياتهما، في مدينة الميناء -طرابلس، وهناك معلومات تشير إلى مشاركة رئيس بلدية الميناء و/أو محافِظ الشمال بالجريمة، بعدما رفضا إعطاء الشابّين رخصة ترميم منزلهما القديم ممّا أدّى إلى انهياره عليهما.
"كلّ مَنْ يُبغضُ أخاهُ فهو قاتِلُ نفسٍ" (١ يو ٣: ١٥) فكيف بمن يخطّط لقتله عن سابق تصوّر وتصميم، ويستعمل السياسات الاقتصاديّة أدواتً للجريمة؟
الفقر ليس قضاءً وقدرًا، الفقر آثارُ جريمةٍ، جريمة صامتة تدمّر أجسادًا، وتمزّق نفوسًا، وقد تريق دمًا كما شهدت أرض الميناء، وكما شهدت أرض لبنان عندما ألّب المجرمون أنفسهم الفقراءَ ضدّ الفقراءِ، والأخوات والإخوة ضدّ الأخوات الإخوة، مرارًا وتكرارًا، تحت ألف شعار وشعار... إنّهم طغاةُ نظام القتل.
يجب أن يعرف الشعب أعداءه بدقّة، ويفهم أدواتهم بدقّة، ليطيح بهم في نهارٍ جديدٍ، سيكون قمرُ مسائِه جميلا جميلاً، شارقًا فوق أرضٍ ترقص فرحًا مع شعبها، ويتنهّد تحتها شهداءَ التفقير، تنهّدًا أخيرًا حفظوه ليوم العدل.
خريستو المرّ