خريستو المرّ
الثلاثاء 23 تشرين ثاني / نوفمبر ٢٠٢١ التحرّش والاعتداء يتركان أثرا بالغًا على حياة الإنسان لا يبدو أنّ السلطة الكنسيّة تعيه. إن كنتُ خلال حياتي عرفت بعدّة حالات تحرّش واعتداء في الكنيسة الأرثوذكسيّة، فهذا يعني أنّها على قدمٍ وساقٍ دون أن يواجه من هم في السلطة الكنسيّة هذا الواقع بروح المسؤوليّة، فردّة الفعل التقليديّة تتراوح بين الوعظ بضرورة ألّا نكون "ديّانين" أو "جلّادين"، وأنّ كلّ الناس "تُخطئ" (يساوون بين الخطيئة والخطأ وبين الجريمة!)، لننتهي باستمرار الأمور على ما هي عليه. ولماذا يفعل المسؤولون أيّ شيء إن كان لا يقلقهم أحدٌ؟ الاتّكال على الروح القدس وحده لم يكن كافيًا يومًا لتغيير أوضاع الإنسان، فالروح يتطلّب ألّا نقسّي قلوبنا كي نسمع صوته. هناك ضرورة لمواجهة جدّية من المؤمنين لتقاعس المسؤولون عن مسؤوليّاتهم، فالمعتدين والمتحرّشين لا يعملون في فراغ، بل يتشجّعون عندما تكون البيئة حاضنة وحامية لهم. من ملامح هذه البيئة: الاكليركيانيّة، تقديس رجال الدين، واعتبار الناس لهم (واعتبارهم لأنفسهم) أنّهم مثالٌ أعلى. هالة القداسة التي تُسبغها التربية الكنسيّة السائدة (ولا أقول لاهوت الكنيسة) على الكهنوت والرهبنة ترفعهما إلى مرتبة أعلى من المسيحيّين «العاديّين»، بحيث أنّ عموم الناس يتعاملون مع الرهبان والكهنة والمطارنة بخليط من التبجيل، والوقار، والرهبة من السلطة التي يستلّونها من تلك الأدوار الكنسيّة، ولكن أساسًا هي رهبة أمام قداسة متخيّلةٍ تسبغُ عليهم. هذا بحد ذاته يعكس تعاملًا غيرَ ندّيٍ ولا متوازنٍ بين بالغين، فكيف إن كان الإنسان طفلًا أو مراهقًا؟ يُضاف إلى ذلك تربية تركّز على أنّ المثال الأعلى في المسيحيّة هي الحياة الرهبانيّة في ازدراء مُبطّن للحياة العلمانيّة التي يحياها مليارات من المسيحيّات والمسيحيّين (أبلغني صديق مرّة بأنّه سمع أحد المطارنة يقول في محاضرة له بأنّ قمّة المسيحيّة تكون حين يتحوّل الجميع إلى رهبان وراهبات). ولا يخفى على أحد الموقف الـمُلتبس، بل السلبيّ، الذي تحمله هذه الأفكار من الجنس الإنسانيّ. هذا تعليم موجود في كتابات ومحاضرات رغم أنّه غير سليم لأسباب عديدة منها أنّ الرهبنة تاريخيًّا كانت "طارئة" في المسيحيّة، وهي ليست طريقة حياة المسيحيّين الأساس (هل كان المسيحيّون قبل الرهبنة أقلّ مسيحيّة وقداسةً؟). من هذا التقديس الذي في غير محلّه للكهنة والرهبان، وإعلاء شأن الرهبة على شأن الحياة في المجتمع، ينبع تعامل لا بدّ أن يلاحظه مَن يدقّق في محيطه، ألا وهو التصرّف شبه الطفوليّ الذي يتعامل فيه الكثير من الناس مع الكهنة والرهبان، حيث يتحوّل إنسان بالغ إلى «طفل» أمام «القداسة» التي يظنّها حاضرة أمامه في شخص الإكليريكيّ (الرهبان خاصّة). وإن كانت الحال كذلك، فكيف يمكن لمن رمى بنفسه في علاقة غير متوازنة مع آخر أن يكون في موقعٍ يخوّله من رفع الصوت إذا ما اعتدى عليه إنسان؟ بالطبع المراهقين والأطفال هم فعليّا وواقعيّا في علاقة غير متوازنة البتّة مع البالغين، ولكن ما أشير إليه هو أنّه حتّى البالغين هم في علاقة غير متوازنة مع الإكليروس بسبب التربية التقليديّة التي تقدّس الثوب الكهنوتيّ والرهبانيّ (طبعا متعصّبي الأرثوذكسيّة سيرفعون الصوت بأنّني أهاجم الرهبان والكهنوت رغم أنّ ذاك ليس ما أقوله). إنّ الاستماع إلى شهادات ضحايا منصور لبكي وبندلايمون فرح في لبنان، وجان فانييه في فرنسا، وغيرهم، يكشف مدى السيطرة التي كانت لهؤلاء على أتباعهم الذين كانوا يرون فيهم قدّيسين أحياء ويعاملونهم كأنّهم كائنات من غير هذا العالم. أخيرًا، فإنّ الاكليريكانيّة الحاليّة القائمة على تركّز السلطة الكنسية في يد نفرٍ من الرجال دون الشعب المؤمن، ودون النساء، عاملٌ آخر يُضاف إلى البيئة الحامية للمعتدين، حيث ينحو الإنسان طبيعيّا إلى حماية الذين يشبهونه (أولاد المهنة نفسها)، هذا إذا لم نذكر تبادل الخدمات في السكوت المتبادل عن الارتكابات (أسكت عنك لتسكت عنّي). واستبعاد النساء عن مواقع السلطة في الكنيسة يترك المجال واسعًا للتقليل من خطورة تلك الجرائم التي يقوم بها الرجال. إنّ إشراك النساء في مواقع السلطة الكنسيّة أساس في هذا المجال، فقد لعبت النساء دورا حيويًّا في رفع الصوت في الوسط الكنسيّ ضد المرتكبين. في السعي الضروريّ لتغيير البيئة التربويّة، يمكن الارتكاز إلى كلمة يسوع "لا تدعو لكم أبا على الأرض لأنّ أباكم واحدٌ وهو الذي في السماوات". كلّ أبوّة أرضيّة عليها أن تشير إلى الله الآب وترشد إليه كالأب الواحد والوحيد للجميع، أي أنّ "الأب" لابس الجبّة هو أساسًا مجرّد أخ، ويجب ألّا تكون "أبوّته" تعويضا عن، أو حاجزًا أمام، أبوّة الله. كما للتربية المسيحيّة أن تؤكّد أنّ المسيح هو المثال الأعلى الوحيد للإنسان، ولا يشاركه في ذلك أحد. كلّ عاقل مُحِبّ للناس لا يضع نفسه مثالًا أعلى لأنّه إن سقط فقد تبعد سقطته، أولئك الذين اتّخدوه مثالًا أعلى، قد تبعدهم عن الكنيسة وحتّى عن الآب الذي في السماوات. إن لم تتحوّل التربية الكنسيّة لتربّي على أنّ يسوع المسيح هو المثال الأعلى الوحيد، وأنّ المسيحيين كلّهم هم مسيحيّون "عاديّون" متساوون أمام يسوع، وتتحوّل الأنظمة الكنسيّة لتتأسّس شراكة حقيقيّة تمزج بين العلمانيّين والإكليروس، وتحقّق مشاركة وازنة من النساء، وتتنوّر بأصحاب الاختصاص، ثمّ تؤسّس وسائل للاعداد النفسيّ للكهنوت والرهبنة، ووسائل للشكاوى والتحقيق الشفّاف والمحاكم المتخصّصة، وتشجيع الناس على اللجوء إلى المحاكم المدنيّة، فستبقى الاكليريكانيّة، وتقديس الرهبنة والكهنوت، ثقافة حامية للمعتدين في الكنيسة ومثبّتة لديكتاتوريّة الصمت فيها. هناك ضرورة كي نتوقف عن الاعتماد على عدد قليل من "قادة" جلّهم من الرجال الملتبسة مواقفهم من الجنس والذين يوحون للناس بأنّهم قدّيسون، وعن تبنّي دور قطيعٍ مـُـقادٍ من الأغنام، لكي نتصرّف فعلًا ككنيسة، أي كجماعة متساوية ومتعاونة تتحلّق حول يسوع. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |