خريستو المرّ
الثلاثاء ٢ تشرين ثاني / نوفمبر ٢٠٢١ (يرتكز هذا التحليل على الجزء الثاني الذي لم يصدر بعد من كتابي: الإيمان بين المحبّة وعبادة الأصنام) يندر أن تتحاور وتختلف بهدوء مع آخر في وضع لبنان وأوضاع المنطقة المترابطة. الفكرُ الثنائيّ القطعيّ سيّدٌ: أنت لست معي بشكل متطابق إذا أنت عدوّ أو خائن. الخلاف الدائر حاليًّا هو حول الطرف الخارجيّ الذي يجب أن ننحني له، كما قال صديقٌ مؤخّرًا. منذ الاستقلال وحتّى يومنا، الحكّام غارقون في بهلوانيّات تبعيّة للخارج من أجل الاستقواء على مواطنيهم من الطرف «الآخر». بلغت البلاد الحضيض والحكّام يدورون في حلقة - مدروسة ربّما - من التقاتل الإعلاميّ معظم الأحيان، والحربيّ أحيانًا. البلاد تغرق، أيّ السكّان يغرقون في الفقر، يمرضون من الفقر، يُقتلون وسيُقتلون بشكل متصاعد في المستقبل عندما تظهر تبعات الفقر وقلّة التغذية والتلوّث: أمراض مزمنة، قلق، إحباط، قلّة تركيز في الدراسة، تسرّب مدرسيّ، أمراض سرطانيّة أوسع، مخدّرات أكثر... لكنّ للحكّام ومن يعبدونهم أولويّات أخرى. أولويّات الحكّام قصيرة الأمد: الآن، أن أبقى الآن، أن أحصل على مكاسب أوسع أو أحافظ على مكاسبي الآن. وأولويّات عبّاد الحكّام: أن أخدّر شعوري بعبوديّتي، بالانغماس أكثر فأكثر في فريقي، بالذوبان أكثر فأكثر بمجموعة متشابهة، وأن أعلّي شأنَ زعيمي وأضعَه في مصاف الآلهة، ثمّ أخضع له بحماس لأعوّض عن شعوري بالخزي لخيانة ضميري، وأهدّئ من روعي أمام انعدام الأمان. إنّ اختلال الشعور بالأمان يدفع الناس نحو الخضوع والتبعيّة طلبا للأمان بالالتصاق بآخر. بالطبع، الجميع مقتنعون بأنّ تبعيّتهم المخدّرة هي تعبير "حرّ" عن "رأيهم" و"قناعاتهم"، ولا ينتبهون أنّ "رأيهم" هو يتطابق دائما مع الإعلام الذي يشاهدونه. ما يكشف الذوبان في المجموعة والعبوديّة للزعيم هو عدم احتمال أيّ نوع من أنواع النقد. تتضافر العلاقات الاندماجيّة بالمجموعة الشبيهة (رمز الأمّ الحاضنة) وعلاقات الخضوع للزعيم (رمز الأب) لتكتمل الأرضيّة لكلّ أنواع الفاشيّات الدينيّة واللادينيّة؛ فطالما لم يستقلّ الإنسان نفسيًّا عن الأم والأب، لا يتمكّن من أن يصبح حرًّا بشكل حقيقيّ، بحيث يصبح قادرًا أن يحبّ آخر مختلفًا عنه. الذائب في الجماعة-الأمّ يعيش في نرجسيّة جماعيّة، فجماعته-أمّه هي أشرف الناس، وأنظفها، وأكثرها قربًا من الله، وأكثرها صدقًا، وأكثرها كرمًا، وذكاءً، وذات ماضِ ذهبيّ عريق، إلى ما هنالك. لكن طالما الجماعة-الأمّ هي موضوع نرجسيّ فكلّ ما يتعارض معها يصبح عدوًّا. وهو ما يُفَسِّر قوّة ولاعقلانيّة كلّ التعصّب الدينيّ والوطنيّ (اللبنانيّون يظنّون أنفسهم أذكى شعب!) والقوميّ والحزبيّ. وهو ما يفسّر شيئًا كثيرًا من انعدام الموضوعيّة في التعامل مع الأحداث وعدم القدرة على الاختلاف. فإنّ كلّ ما يخالف "الأمّ"-الجماعة، ويتعارض معها هو مرفوض لأنّه يثير الجزع من اختلال صيغة الحماية بالجماعة المتطابقة (حضن الأمّ). فكيف يمكن للإنسان الذائب في الجماعة، أن يحكم على شيء في خلاف مع "الأم" بشكل موضوعيّ؟ لكنّ الإنسان لا يرى هذا الخلل في ذاته لأنّه يشترك في الخلل مع جماعته، لو قال أحدٌ أنّه أشرف الناس، وأنظفهم، وأكثرهم ذكاءً، لضحك عليه الناس؛ ولكن عندما تصبح هذه الأفكار اعتقادات جماعيّة فنحن لا نراها مضحكة، بل تغدو شبه حقائق، لأنّ النرجسيّة تغدو مشتركة، والذوبان بالأمّ مشترك. والخضوع لزعيم مؤلَّه يضاعف من الخضوع والنرجسيّة. النتائج لا شكّ مرعبة. عدم القدرة على الحوار هو أوّلها، ولكن أكثرها كارثيّة هو فقدان القدرة على التعاطف مع الآخر المختلف، ودفع ذاك المختلف أكثر فأكثر خارج دائرة "العائلة"، خارج دائرة الإنسانيّة، وبالتالي فتح الطريق أمام استباحته، ورأينا هذا قيد التنفيذ في عدّة أحداث. هذا كلّه ليس قضاءً، ولا قدرًا لا يحول ولا يزول، كلّ شيء متعلّق بطبيعة البنى الناظمة للعلاقات في المجتمع، وعندما تتغيّر طبيعة العلاقات بحيث تؤمّن الدولة شبكة أمان جماعيّة وفرديّة على شكل حقوق للمواطنة والمواطن الفرد تتضاءل الحاجة إلى الجماعة كرمز للأمّ الحامية، وعندما تكون الدولة ذات نظام غير متعسّف، تنعدم فيه عبادة الزعيم رمز الأب، نفتح الطريق أمام إمكانيّة الحرّية وإمكانيّة المحبّة مع الآخر المختلف. المحبّة ليست شيئا مستقلًا عن طريقة الحياة، هي نفسها طريقة حياة، ولكي تنتعش وتنمو تحتاج لبيئة مناسبة، والبيئة بدورها تحتاج لبُنى. من هذه الزاوية الالتزام بالحياة العامّة والعدالة والحرّية ليست من النوافل وإنّما هي من صلب الاهتمام الإيمانيّ. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |