خريستو المرّ
الثلاثاء 16 تشرين ثاني / نوفمبر ٢٠٢١ إنّ عبور المسيحيّين في شرقنا إلى ضياء الملكوت لا بدّ أن يمرّ بمحبّة الفلسطينيّين، وما تستعديه تلك المحبّة من نضالٍ معهم في مسيرة تحّررهم. لماذا؟ المسيحيّة ليست دينًا ولو ألبسها الناس لباسًا دينيًّا لأنّ الإنسان مفطور على الطقوس، فالمسيحيّة كما علّم المطران جورج خضر هي إيمان بشخص يسوع وعلاقة مع هذا الشخص. يصف الكتاب هذا الشخص بأنّه "المرذول" الذي صار حجرا للزاوية في «بناء» الجماعة البشريّة المولودة من الروح القدس، وهي جماعةٌ تتبنّى طوال عمرها - عبر دموع والآلام - المحبّةَ نهجَ حياةٍ؛ وهي أيضًا جماعة تفهم أنّ المحبّة ليست شعورًا ورديًّا يحمله إنسان تجاه آخر، وإنّما موقف داخليّ منه، يدفع حامله للتحرّك من أجل حياة هذا الآخر، في مسؤوليّة تحترم حرّيته. الفلسطينيّون "مرذولون" بشكل خاصّ، وبهذا يشبهون المسيح المرذول الذي قال عن نفسه أنّه والمرذولين واحدٌ وأنّنا بوحدتنا معهم نصير واحدًا معه هو. إنّ الوحدة الإيمانيّة التي يعيشها المسيحيّون والمسيحيّات مع يسوع في الكنيسة، إن كانت أصيلة، لا تُعاش على مستوى المشاعر ومع يسوع حصرًا، وإنّما تُعاش أيضا وأساسًا على مستوى العمل الجاد من أجل المرذولين أحبّاءِ يسوع. البكاء على الذات يعرفه الأفراد وتعرفه الجماعات، لا شكّ أنّ البعض غير الفلسطينيّ من قرّائي يفكّر في ذاته: وأنا أيضا مرذول في بلادي، مُتعَب، ومُفَقَّر. وربّ قائلٍ: فلنلتفت لأنفسنا قبل أن نلتفت لغيرنا، أو فلنلتفت لبلدنا قبل فلسطين، وما شابه من تبريرات، وعلى هذا الجواب بسيط "اهتمّ لهذا ولا تهمل ذاك"، المهمّ أن يسهر الإنسان على طراوة قلبه لئلّا يدخل جحيم القساوة. في العالم الفلسطينيّون مطرودون من أرضهم، وهم في فلسطين تحت احتلال أقلّ ما يُقال عنه أنّه وحشيّ. مهما حصل بالسوريّين واللبنانيّين والعراقيّين يبقى لهم وطنٌ مُعتَرَفٌ به، ويبقون أحرارًا على الأقلّ في العيش البحت في أرضهم، ولو في ظلّ الظلم، سافرًا كان الظلم أم مقنّعًا. الفلسطينيّون لا يملكون هذه "الحرّية" حتّى في مستواها الأدنى. لكنّ لبنان - وهو بلد نحن جميعًا مسؤولون عن قوانينه طالما نحن مواطنيه - يتعامل مع الفلسطينيّين الذين لجأوا إلى أراضيه معاملةً يندى لها الجبين. لا يقتصر الأمر على العنصريّة الكلاميّة والقلبيّة، وإنّما يمتدّ إلى القوانين، فَهُم محرومون من التملك العقاري بينما هو مسموح للأجانب، ومحرومون من ممارسة أكثر من سبعين مهنة (٧٢ على ما أعلم)، ويعيش أكثر من ٩٠٪ منهم تحت خطّ الفقر ، وإن عملوا في السرّ (أي إذا استغلّهم ربّ عمل) فهم محرومون من التعويضات والإجازات، ويُمنعون من البناء داخل المخيّمات، ومن الخروج من البلاد إلّا لمدة محدّدة وإلاّ فلا عودة، وإضافة إلى ذلك يعيشون في ظلّ تناقص فادح في تقديمات الأونروا التي يتحكّم بتمويلها حكومات معادية لحقوقهم... هل يمكن للبنانيّ أن يقبل أن تعامله دولةٌ أجنبيّة بهذه الطريقة إن لجأ إليها؟ هل يمكن لأحد ان يتصوّر الحياة في ظلّ هكذا ظروف؟ لا شكّ أنّ بعض القرّاء يُلقون الآن باللائمة على القيادات الفلسطينيّة، وأخطائهم في الحرب اللبنانيّة، إلى آخر المعزوفة. ولكن خطايا قادة، أو مجموعات من شعب، لا يمكن تحميلها لشعبٍ بأكمله. لو كان يمكن تحميلها لشعبٍ بأكمله لكان على الشعب اللبناني أن يحمل بأكمله مسؤوليّة المجازر التي ارتكبتها جماعات فيه! هل يُعقَل ذلك؟ إنّ النضال من أجل حقوق آخرين لا ينبع من كون الآخرون «مستحقّون» للنضال وللعدالة، فبهذا المنطق لا يستحقّ الشعب اللبنانيّ الذي أعاد انتخاب جزّاريه مرّاتٍ النضالَ من أجله ولا العدالة. لا، إنّ النضال من أجل حقوق الآخرين ينبع من كون المناضل نفسه يشعر ويعرف أنّه لا يمكنه أن يحيا كإنسان إذا ما أغلق وجدانه أمام المظلومين، أمام «المرذولين»، أمام المسيح، أمام الله في وجوه المظلومين. هناك ضرورة ملحّة للوقوف داخل لبنان إلى جانب الفلسطينيّين اللاجئين إليه (وهي الدعوة نفسها للوقوف إلى جانب السوريّين اللاجئين إلى أرضه، وللسوريّين مقالة أخرى). لقد لجأ اللبنانيّون واللبنانيّات إلى أصقاع العالم هربًا من ظلم حكّامهم، وصاروا «غرباء» فيها، فلا يُغلقوا قلوبهم أمام إخوتهم الفلسطينيّين تحت حجّة أنّهم «غرباء» - وهم ليسوا كذلك - فمحبّة الآخر تصيّره قريبًا، بحسب رؤية يسوع الذي وحده يجعل الإنسان مسيحيًّا، وليس بحسب فذلكات هذا العالم. القرب والبعد علاقة، مع يسوع ومع مَن هُم بشكل خاصّ على شبهه. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |