خريستو المرّ
الثلاثاء ٦ تشرين أوّل/أكتوبر ٢٠٢٠ كشف يسوع بأنّ الله محبّة، كما نقل يوحنّا. هذا ليس بتفصيل لاهوتيّ بل نقطة مركزيّة منها يمكن للمسيحيّات والمسيحيّين أن يقرأوا الكون، والحياة، والعلاقات الفرديّة والجماعيّة، وأن يبنوا مواقف، ويقيّموا سياسات وبُنى. الله-محبّة، وكي يكون الإنسانُ كالله، على مثاله، عليه أن يكون مُحِبًّا، ولكي يكون محبّا عليه أن يكون حرّا فبدون حرّية لا يوجد سوى خضوع عبيد. الوجه الآخر لهذه الأحجية هو أنّه بمقدار نموّ محبة الإنسان، بمقدار ما تنمو حرّيته بشكل يخدم الحياة، بحيث لا تتدهور حرّيته إلى تدمير ذاتيّ أوتدمير للآخرين. ولهذا فإنّ الموقف المسيحيّ الأصيل من القمع موقف جذريّ: لا يمكن التصالح مع القمع تحت أيّ مسمّى ولو كان مسمّى الاستمرار بالعيش؛ قد لا يمكن للإنسان أن يغيّر ظروفه، وقد يختار الصمت، ولكنّه لا يتصالح مع القمع والتعسّف والاعتقال التعسّفيّ، هذه كلّها تبقى شرّا خالصا بالضرورة. من هنا كانت شهادة البنى الرسميّة في الكنائس في ظلّ القمع العميم في بلادنا المختلفة (سوريا، لبنان مصر، العراق، مثلاً) فضيحة كاملة. حرّية الإيمان بالطبع جذريّة أيضا، وإلاّ تحوّلت حياة الإنسان مع الله ومع الآخرين إلى فراغ، إلى حياة مزوّرة، يفقد الإنسان فيها نفسه وأيّ فقدان هو أفدح من هذا؟ لكنّ بينما حرّية الإيمان والفكر مطلقتين بمعنى أنّه للإنسان أن يفكّر ويؤمن بما يشاء، فإنّ حرّية الفعل ليست مطلقة أكانت في العلاقات الشخصيّة، أم علاقات العمل، أو العلاقات الاجتماعيّة العامّة. فإن كان فعل الآخر في العلاقة الشخصيّة وعلاقات العمل مؤذيًا فلا بدّ لي أن أردّ الأذى، وأن أقطع التواصل إن اقتضى الأمر، وليس في ذلك نقص في المحبّة، وإنّما دفاع عن الحياة، دفاع عن حرّيتي بأن أنمو وأحيا وأحبّ. من هنا ضرورة الابتعاد عن العلاقات السّامة التي لا تنتج إلا القهر، الخضوع والإخضاع. في العلاقات الشخصيّة من مسؤوليّة الفرد أن يكوّن وعيًا يسمح له بأن يرى مشروعيّة الابتعاد، وحتّى الانقطاع، عن الآخر، وبأن يمارس تلك المشروعيّة. أمّا في العمل فهناك قوانين وسياسات داخليّة ترعى الدفاع عن الذات من ضرر الآخرين، وإن لم تكن هكذا قوانين موجودة فيجب أن توجد. ويبقى ذلك كلّه في خطّ المحبّة، حبّ الذات بالعناية بها، وحبّ الآخر بصدّ عدوانه. أمّا في العلاقات الاقتصاديّة، فالناس حرّة في التعامل مع الأحداث، ولكن ليس كلّ تعامل هو تعامل مُحِبّ وبالتالي مسيحيّ. هناك من يريد حرّية ليستغلّ غيره، والاستغلال هو تحويل شخص إلى أداة. إنّ العامل والموظّف مُستَغَلّان إلى حدّ بعيد، هما يوظّفان طاقاتهما وينتجان أرباحًا هائلة أحيانا، لكنّهما لا يجنيان منها إلاّ النزر اليسير. حرّية ربّ العمل تقول له أنّ ذلك كلّه حسن، وشرعيّ. مركزيّة المحبّة في المسيحيّة تقول أنّ هذا التصرّف الشرعيّ غير مشروع مسيحيّا، ولا اسم لهذا التصرّف غير الاستغلال، وبلغة مسيحيّة أوضح يمكن وصفه بالخطيئة. ماذا نفعل، إذًا، أمام حرّية من يريدون ويخطّطون ويعملون من أجل استغلال غيرهم؟ لا يمكن التعامل معهم بالابتعاد والانقطاع كما في العلاقات الشخصيّة، ولا بالقانون كما في حالة العمل (فعادة ما يكون الاستغلال قانونيّا وشرعيًّا)، وواهمٌ بالطبع من يظنّ أنّ الوعظ يؤتي نتيجةً في هؤلاء. هناك وسيلةٌ وحيدة يمكن استعمالها ألا وهي الضغط والقوّة. قد يختلف المسيحيّون على نوع القوّة والضغط المتوافقان مع الإيمان أثناء النضال لمواجهة الاستغلال (اضراب، تظاهر، توقّف عن العمل، نضال لا عنفيّ، نضال عنفيّ) ولكن لا يمكن أن يختلف عاقلان على أنّه إن كانت حرّية الإيمان حرّية مطلقة، فإنّ العدالة التي نحن مدعوّون لتحقيقها في هذا العالم، كتعبيرٍ عن المحبّة على الصعيد الاجتماعيّ، لا يمكن بناءها إلاّ بالقوّة. والقوّة تقتضي الشجاعة. ليس من المسيحيّة بشيء أن تضع التربية الكنسيّة لنفسها هدفًا أعلى يكمن بتخريج الرهبان والراهبات، وإنّما المسيحيّة تقتضي أن يكون الهدف الأعلى للتربية الكنسيّة تخريج قدّيسين وقدّيسات، ومن الناس من يتقدّس بالترهّب، ومنهم من يتقدّس بالحياة في العائلة، ومنهم بالعمل في قلب المجتمع لعضد الناس، ومنهم بالنزول إلى جحيم المجتمع ليقيموا بقوّة يسوع المستغَلّين، الموتى معنويًّا. نعم، من المحبّة والقداسة أن يناضل الإنسان لتحقيق الحرّية ولدحر الاستغلال. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |