خريستو المرّ
٢٠ تشرين أوّل /أكتوبر ٢٠٢٠ من قِصَر النظر أن يظنّ إنسانٌ أنّ شهادة مكتوبة حول نقطة ما في الحياة ستُحدِثُ تغييرًا جذريًّا في واقع العلاقات بين البشر. العلاقات بين البشر لا تَحدث في فراغ وإنّما من خلال بُنى كالعائلة، والمدرسة، والكنيسة؛ وتغيير طبيعة هذه العلاقات لا يحدث إلاّ بتغيير البُنى التي تحكمها، وهو ما لا يحدث فجأة بل بشكل بطيء وبجهود متلاحقة لعدد واسع من الناس. هذا لا يعني أنّ الكتابة كتعبير عن الفكر (أكان الفكر إيمانيّا أم لا) لا مكان لها في تغيير واقع العلاقات البشريّة. الكتابة فعل. الأفكار تؤثّر في الوعي، والوعي إن احتضنته جماعة يمكنه أن يتحوّل إلى خطط وأعمال، وهذا هو المطلوب في النهاية. لكن دون وعي لا يمكن لأيّ فعل هادف أن يتكوّن. ولكن نتائج الوعي والمعرفة (حتّى في العلوم) لا تُطَبَّقُ إلاّ في حالتين: إن كان هناك منفعة مادّية-ماليّة لمؤسّسة (شركة، حكومة)، أو إن انطلقت مجموعة واسعة من الناس لتضغط وتناضل باتّجاه تغيير الواقع. الناس في القرن التاسع عشر كانت تعمل ٦ أيّام في الأسبوع، وكانت عمالة الأطفال رائجة، وساعات العمل تصل إلى ١٨ ساعة يوميّا؛ لم تأتِ قوانين العمل الحالية نتيجة صدفة بل بسبب كتابات، ثمّ نضال طويل لحركات نقابيّة وأحزاب في صراع مرير، وكلّ ذلك مبنيّ على أرضيّة من الحرّية الفكريّة والسياسيّة التي تسمح بالنشر وبالعمل السياسيّ. قِسْ وقيسي على ذلك قوانين تحمي المعوّقين وحرّيتهم (المجتمع كان يعزل المعوقين ويضعهم في مؤسّسات خاصّة)، وتحمي النساء والأطفال من العنف. لم تُسّنّ هذه القوانين في المجتمعات بسبب بعد نظر إنسانيّ خاصّ بالحكومات، وإنّما لأنّ هذه الحقوق انتُزِعَت (ولا تزال تُنتَزَع حتّى اليوم) انتزاعًا من خلال ضغط مجموعات مختلفة. في هذا العالم، تغيير الأنظمة والبُنى يتمّ من خلال الضغط على المستفيدين منها، وليس من خلال الكلمة الحسنة المتوجّهة لهم، النقاش يتمّ لنشر الوعي وتأسيس الرأي العام الضاغط (أو بالعكس لتغييب الوعي، وبروز مصرفيّين على شاشات التلفزة اليوم هو من باب تغييب الوعي). بالضغط وليس بالإقناع تتغيّر البُنى، كلّ إنسان واعٍ يعلم أنّه مهما وعظت المصرفيّين والسياسيين عن الله والأنبياء والأخلاق سيتابعون نهبهم للناس. الأمر كذلك داخل المؤسّسات الكنسيّة (والدينيّة عامّة)، هناك مستفيدون من الوضع القائم ماليّا وسلطويّا، ولن يأبهوا لا لتذكيرهم بيسوع ولا بنبيّ ولا بكتاب، ولا حتّى "بالبكاء وصريف الأسنان" في الآخرة. إسألوا جميع اللصوص والمتستغِلّين في جميع أديان وبلدان العالم. الفخر بالعقيدة القويمة في المسيحيّة والإسلام والكلام الانشائيّ حولها يمكنه أن يكون مترافقا مع كلّ المفاسد: مع التسلّط، مع النهب، مع قمع الأطفال، مع العنف ضدّ النساء، مع الإبقاء على المعوقات الاجتماعيّة أمام المعوقين، مع الشعور الهمجيّ باحتكار الخلاص وكراهية الآخرين. حتّى مساعدة الفقراء يمكنها أن تتمّ مع دعم بُنى الاستغلال التي تولّد الفقر وهذا بالضبط ما يقوم به كلّ من يدعم فقيرا ثّمّ ينتخب من ينهب الناس ويدفعهم إلى الفقر. الكتابة هي خطوةٌ في التغيير، وخطوة أخرى أن نشهد للحقّ والحقيقة جهارًا عندما نكون وجهًا لوجه مع الآخرين، خاصّة إذا كانوا من أصدقائنا والذين معهم قد نتساهل؛ الخطوات الأخرى تطلّب عملا جماعيًّا. الصراع مع المحيط صعب، لكن الحقّ أهمّ، وما من محبّة حقّة للمحيط دون شهادة للحقّ؛ ومن الصعوبات الشعور بالضيق، فالمعروف أنّ الإنسان يشعر بالضيق بل وأحيانًا بالذنب عندما يتصادم مع من يحبّهم، وعندها لنتذكّر نصيحة بولس "إن بكّتتنا قلوبنا فالله أعظم من قلوبنا"، إن شعرنا بذنب لا معنى له لمجرّد مخالفتنا للمحيط المباشر لنا، فلنتابع بشجاعة لنكتب ونتكلّم ونشهد، ونعمل معًا. ومن يؤمن لا ينتظر أن يصل خلال عمر حياته القصير بل يفرحه أن يسير في الطريق، بالفعل الملكوت هو سلسلة بدايات لا تنتهي، كما قال غريغوريوس النيصصي يومًا، هو سلسلة بدايات من الفرح. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |