خريستو المرّ
الثلاثاء ١٦ آب / أغسطس ٢٠٢٢ لكلّ فرد هويّات مختلفة تكتسب أولويّة لدينا عندما تكون مهدّدة، وعندها تتفاعل عنده أواليّة الدفاع عن النفس. الإنسان، كما الحيوان، يدافع بعدوانيّة عن ذاته متى أحسّ أنّ مصالحه الحيويّة مهدّدة. لكنّ مروحة المصالح الحيويّة عند الإنسان ليست فقط مادّية وإنّما يحتاج الإنسان أيضاً إلى إطار وتوجّه عام في الحياة، لقيم، لتوجّهات روحيّة، بالمعنى العام للكلمة الذي يشمل الإيمان بمبادئ وقيم معيّنة. ولهذا فإنّ الإنسان يعتبر أنّ أيّ تهديد لهذه القيم هو تهديدٌ لمصالحه الحيويّة. وعندما يظنّ المرء بأنّ قيمة حيويّة (والمقدّس قيمة حيويّة) لديه قد تعرّضت للتهديد أو للاعتداء فإنّه يلجأ إلى التفكير القاطع الثنائيّ (أنا خير هم شرّ)، ويستعدّ المرء تلقائيّاً للهجوم دفاعاً عن قيمه. بواسطة التفكير الثنائيّ يرى الإنسان أنّ ذاته وجماعته هما ممثّلي الحقّ أو الخير، وأنّ الآخر وجماعته هما ممثّلي الباطل أو الشرّ. ويلعب الاستبداد والاستعمار دورين كبيرين في موضوعنا. فعندما تشعر جماعة ما وطنيّة او قوميّة او دينيّة أنّها مهزومة أمام الاستعمار والاستبداد، يشعر المرء بانعدام الأمان، فهو بشكل دائم تحت التهديد. ولكن لا يمكن لإنسان أن يحيا دون أمان، لهذا لا بدّ له أن يتمسّك بشيء يعيد إليه الشعور بشيء من الأمان، لذلك يتمسّك بآخر هويّة له لم يستطع الحاكم أن يسحقها وتعطيه شيئا من الأمان المفقود: الهويّة الدينيّة. لكن إن كان الهويّة الدينيّة للشعوب المقهورة هي الملجأ الأخير فأيّ تهديد لها أو إهانة، سيُعاش كجرح أكبر بكثير ممّا لو كانت الأحوال عاديّة، لهذا نفهم (ولا نبرّر) تعاظم ردّات الفعل العنفيّة التي تعبّر عنها شعوبنا المسحوقة بين مطرقة الاستعمار وسندان الحكّام. هذا إذا لم نتحدّث عن دور مباشر للاستعمار في التحريض على العنف الدينيّ ليتفسّخ المجتمع أكثر وتضعف قدرته على التحرّر. لا تكمن المشكلة في وجود هويّات أو في الدفاع عنها، وإنّما في الشكل الذي قد يتّخذه الدفاع عند الذات. هل الإنسان مستعدّ أن يلجأ إلى القضاء والمجتمع الأوسع لكي يأخذ حقّه؟ أم أنّه سيندفع لهدر دم الآخر، أو الآخرين، والدعوة إلى القتل الفرديّ، أو ذلك الجماعيّ حيث لا أحد يشعر بمسؤوليّة شخصيّة؟ أي أنّ السؤال هو التالي: هل الجماعة الدينيّة، فوق الوجود الوطنيّ المتمثّل بدستور وقضاء؟ هذا السؤال مطروح بالنسبة للمسيحيّين وللمسلمين، فلسنوات خلت هدّد مسيحيّون فرقًا فنّية بالأذى الجسديّ، أي أنّ جماعات مسيحيّة أرادت أن تكون فوق الدولة. ولا نزال نذكر كيف أحرق مسيحيّون دور للسينما في فرنسا لشعورهم بأنّ مقدّسهم قد تهدّد جرّاء عرض فيلم "التجربة الأخيرة للمسيح". لكنّ المشكلة، في عصرنا، مُضاعفة بالنسبة للمسلمين لأنّ هناك قيادات دينيّة وازنة لا يرفّ لها جفن في دعم دعوة لقتل. لله الحمد، أنّ معظم الناس لا يأبه لتلك القيادات، ولكن لا بدّ للإنسان أن يلاحظ تلك الطمأنينة وراحة الضمير التي يتكلّم بها كثيرون على صفحات التواصل الاجتماعيّ عند المحاولة الأخيرة لقتل سلمان رشدي. ولسنوات خلت اطمأنّت جماعات مقاتلة في سوريا والعراق إلى القتل والتدمير والإبادة باسم تفسير محدّد للدين يجعل من تلك الجماعات ممثّلة لإرادة الله، ويجعل من كلّ مَن لا يتبعها مُباحًا بكلّ طمأنينة لكلّ أنواع الفظائع. على صفحات التواصل مَن يذكر تبريرات قتل كاتب لا يفعل شيئًا سوى ترداد ما قد تعلّمه، ويسمعه، ويقرأه، من رجال الدين. يشعر المسيحيّون الذين يحبّون المسلمين ويشاركونهم المصير، بأنّ هناك اجتهادًا ضروريًّا في قلب الإسلام، للخروج بنا من أوضاع لا ترتدّ علينا جميعًا سوى بالخراب وبالتفسّخ والاحتراب الداخليّ (التوتّر المذهبيّ السنّي-الشيعيّ أكبر دليل) بينما الاستعمار يتمدّد في فلسطين وينهب في ثروات بلادنا ويُفَقِّرها. ولا بدّ من التذكير بأنّ هناك اجتهادًا آخر ضروريّ لكي نعيش بسلام في كنف دولة تجمع مواطنيها على أساس مواطنيّة كاملة غير منقوصة، تساوي بين الجميع، لا مكان فيها لأهل ذمّة، ولا لمسلمين يدافعون عن مسيحيّين، بل لمواطنين متساوين يدافعون عن أهاليهم وقت الحاجة. حتّى اليوم، لم نستطع أن نقوم في بلادنا بجهد فكريّ وعلميّ واسع النطاق، مؤثّر في المجتمع، لنفكّر بحرّية في أحوالنا ونتمكّن من الإمساك بمصيرنا. قد يكون الناس في الماضي أجابوا عن إهانة الرموز الدينيّة بالدعوة إلى القتل، ولكن تلك كانت طرق ذلك الزمن. هذه الدعاوى اليوم هي من خارج العصر، ولا يمكن ان تمرّ دون أن تؤذينا معنويًّا جميعًا، وهي تساهم في تدهور القدرة على النقد في داخل الأمّة. هكذا طريقة تفكير لا بدّ أن تذهب أبعد فأبعد في كمّ العقول والأفواه. القبول بأن يحتكم الجميع إلى دولة غير ملحقة بدين، وأن تكون الأديان المؤسّسات الدينيّة في، وليس فوق، المجتمع، وحده يضمن السلام الدخليّ في البلدان، ويمنح الناس فسحة ضروريّة لحرّية التفكير والنقاش. ممارسة العنف الداخليّ أمر تضعه الشعوب في يد دولها، ويُمارس بواسطة مؤسّساتها، وإلّا تفسّخ المجتمع. إنّ «الشعور» الدينيّ أمر دقيق، والأفضل أن يحتكم الإنسان إلى القضاء الذي يعبّر عن المجتمع ويرى الأنسب. مارسيل خليفة، كاد أن يدخل السجن لأنّ شعور أحدهم الدينيّ تحسّس فجأة، واتّهمه ظلما بتحقير الشعائر الدينيّة الإسلاميّة، لكنّ القضاء حكم بعدم وجود إهانة، وانتهى الموضوع. لو ترك الموضوع للشارع ماذا كان ليحدث ظُلماً؟ إنّ الأسلم والأفضل بما لا يُقاس أن يُترك الأمر للقضاء، وهو الأمر الوحيد في نظرنا يسمح بالسلام وبإحقاق الحقّ والقانون داخل الأمّة، ويسمح للأمّة بأن تتقدّم ليس فقط عسكريّا وإنّما أيضا حضاريّا وثقافيّا وفنّا وعلمًا وخدمة للإنسان، واللجوء إلى القضاء يحترم حرّية الإنسان بالتفكير والتأمّل في أسرار هذا الكون وهذا الوجود وأن يؤمن بما يشاء ولا يؤمن بما يشاء، حتّى يحكم الله بيننا في ما كنّا فيه نختلف. لم يوكّل الله أحدًا ويَقُل له: أنت تمثّل إرادتي. كلّ مَن يقول أنّه يمثّل إرادة الله هو يفسّر نصوصًا، ورأيه بالتالي يحتمل الخطأ أكثر ما يحتمل الصواب، بحسب رأينا. لتغيير أحوالنا، هناك مهمّة كبرى لتفسير مختلف للنصوص لتحترم حياة الإنسان، وهناك مهمّة دحر الاستعمار والقضاء على الظلم الداخليّ، وهناك مهمّة خلق أطر مشاركة سياسيّة تسمح للناس بالإمساك بمصيرها والمشاركة في صنع مستقبلها، والعيش بمواطنيّة غير منتقصة داخل دولة يحكم فيها قضاء عاقل ملتزم بالقانون الذي يضعه المجتمع. مهمّات كبرى لنصبح أمّة كبرى مُعاصرة. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |