خريستو المرّ
الثلاثاء ٢٠ تمّوز/يوليو ٢٠٢١ أمام الأحداث يتساءل الإنسان ماذا يفعل؟ والسؤال عن الفِعل يسبقه عادةً تحليلٌ لأسباب الظروف. العديد من الناس ينتهجون اللامبالاة حيال الأحداث والاستقالة من الفِعل، فلا يتساءلون عمّا يمكنهم فعله، لكنّ التساؤل الكبير الذي نكاد جميعًا نتجاهله هو ماذا نكون؟ أن نكون هو أساس كلّ شيء، أساس الحياة وهدفها بآن. وأن نكون هو شيء أعمق من أن نوجد ونأكل ونشرب ونتوالد ونرتاح ونعمل. أن نكون هو الحالة التي نحن عليها بينما نفعل ذلك كلّه. أن نكون هو توجّه داخليّ. قد أفعل خيرًا بهدف شرّير أو أنانيّ، مثلًا، أتبرّع بمبلغٍ ماليٍّ بهدف شراء الذمم لأنجح في الانتخابات، أُعطي منحةً دراسيّةً وهدفي أن يخضع لي من أمنحهم، أصبح راهبًا وهمّي أن أتعالى عن غير الرهبان، أدرس وهمّي أن أسيطر، إلخ. إنّ توجّهي الداخليّ في كلّ هذه الحالات هو توجّه انغلاقيّ، بحيث أنّ تبرّعاتي وعطائي وترهّبي ودراستي وذكائي ليست بالنسبة لي سوى مرايا أعشق نفسي بها. و"عاشق نفسه ضدّ نفسه" كما قال مكسيموس ان اسعفتني الذاكرة. كينونتي عندها، حالتي الداخليّة هي حالة تشبه الجحيم، فما الجحيم سوى حالة الانقطاع عن المشاركة، مشاركةُ الإنسان ومشاركة الله، والمشاركتان تترافقان ولا يمكن فصلهما. بالنسبة لوجودي، لحالتي الداخليّة، لنفسي، أفعالي وما أقوم به، تغدو هامشيّة، فما أحياه هو حقيقتي. وإن كنت أتلهّى على هذه الأرض عن حقيقتي، بالأعمال والتنافس و«النجاحات» والمرح فإن هذه الحقيقة ستظهر لي كما هي بعد الموت ، حيث لا مجال بعد للهروب من الذات. عندها يصبح وجود الله -الذي هو دائمًا محبّةٌ لا متناهيةٌ تعطي الفرح، ودائمًا يجذب الإنسان إليه - مصدرَ انزعاجٍ وكدرٍ وتمزّق لأنّي تمرّنت في حياتي على القسوة، على أن أغلق نفسي على نفسي وألّا أشارك، فإذا بي أحكم على نفسي بجحيمي. الله لا يعذّب أحدًا وإنّما نحن نعذّب أنفسنا برفض الانفتاح عليه وعلى الآخرين، نعذّب أنفسنا اليوم ولاحقًا، وإن خدّرنا عذابنا اليوم بشتّى صنوف الهروب من الذات لن يمكننا أن نفعل ذلك لاحقًا. لكن هذه الحالة الجحيميّة التي نكون فيها ليست لا شيء بالنسبة لله الذي يحبّنا، فعذابنا يغدو لله «عذابًا» بطريقة ما، فإنْ كان الله محبّةً فلا يمكن إلّا أن يكون وجوده مهتمًّا بالمحبوب وحسّاسًا لمصيره. لهذا كُتِبَ عن كلمة الله أنّه مصلوبٌ قبل إنشاء العالم، لأنّ مصير الإنسان يؤلم الله بألمٍ لا نفهم نحن كيف هو، لكنّنا نفهم أنّه لا بدّ موجود إن آمنّا بكلمة كتبها يوحنّا الرائع: أنّ الله محبّة. هذا ما يمكن قراءته في التراث المسيحيّ من زاوية يسوع المسيح المصلوب. ورغم ذلك، عند الصفاء (وهذا قليل)، تدفعنا المحبّة أن نرجو أن يتمكّن الإنسان حتّى بعد الموت من أن يتغيّر، ولكنّنا هنا في الرجاء وليس في التأكيد، فلا شيء في الأديان يشير إلى هذه الإمكانيّة، فيدعونا التواضع ألّا نجزم في شيءٍ، راجين وتاركين كلّ شيء لسرّ القلب مع الله وسرّ الله مع القلب. الأعمال، على كبرها وأهمّيتها بالنسبة للآخرين، لا تقدّسنا ولا تؤلّهنا؛ وإنّما وضعنا الداخلي، إن كان نورانيّا، مُحِبًّا، هو الذي يُضيء ويشعّ في أعمالنا. هذه هي الأعاجيب الحقيقيّة: أنّ إنسانًا مُحِبًّا يمكنه أن يفتح عالمًا من التنفّس والاطمئنان لإنسان آخر بكلمةٍ، أو هتافٍ، أو سلامٍ، أو سؤالٍ، أو صمتٍ وإصغاءٍ، أو أيّ عملٍ آخرٍ، لأنّ المحبّة، المتعاطفة أبدًا، تحتضنُ وتُطلِقُ في آن، وتجعل وجودنا ووجود الآخرين يتنفّس وينمو ليصبح ملكوتًا. لهذا كلّه، نكون بأن نحبّ، بحيث تجعلنا المحبّة أحرارًا من الانغلاق على أنفسنا؛ وتجعلنا الحرّية محبّين حقّا بالانطلاق خارج العبوديّة والأسر؛ وينبغي أن ننتبه أنّ النظام الاقتصاديّ الرأسماليّ بتركيزه على الاستهلاك المتزايد (والانتحاريّ لكوكبنا) يساهم بالتركيز على الأشياء، والمزيد من الأشياء، ويُبعدنا عن التركيز على الشيء الوحيد الذي هو حاجة: أن نكون. يسوع أشار لامرأة صديقة كانت مضطربة بشأن عملها أنّ الحاجة هي إلى واحد، إلى كلامه، إليه، إلى كلمة الله التي تُحيي، إلى الحبّ، ذلك أنّنا جائعون إلى الحبّ، إلى كلمات الحبّ، التي إن أكلناها دَفَعَتْنا في رحلةٍ متعبةٍ كي يصير وجودنا حبًّا، كي نتحوّل إلى أناسٍ مُحِبّين، كي نصير أشخاصًا، فنكون. عندها تكون كلّ أعمالنا الصادرة عن وجودنا حياةً تُشعّ شيئًا جميلًا ليس من هذا العالم أو هو العالم في عمقه. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |