الاثنين ٤ شباط/فبراير ٢٠٢٠
يكاد يكون التواصل معدوما بين الناس إن كانوا على ضفّتين مختلفتين في أيّ مجال، وخاصّة السياسيّ. الآخر هو «العدوّ». الوضع أصبح أكثر حدّة عندما تصاعدت الانتفاضة الشعبيّة. وقد نال الذين التحقوا بالقيادات الطائفيّة للبلاد أبشع النعوت. ولا شكّ أنّهم مسؤولون عن سياسات النهب بدعمهم لهؤلاء. فالسياسيّون لا يمكنهم متابعة النهب إلا لسكوت الناس وتشجيع بعضهم الضمنيّ وتزلّفهم، وأبشع اتزلّف تزلّف مجموعات المرتزقة، أصحاب الشهادات الجامعيّة والدكاترة، المستعدّون والمستعدّات أن يبيعوا ويبعن نفوسهم ونفوسهنّ في خدمة السياسيين الفاسدين، وهم سعيدون وسعيدات بالقرب منهم، وبالألقاب، وبالسلطة الوهميّة التي حصلوا عليها. المهمّ عندهم دخول تاريخ البلاد، ولو كان من الباب غير المشرّف. لا شكّ أنّ الانتخابات الأخيرة كانت كارثيّة حيث انتخب الناس الزعماء أنفسهم الذين نهبوهم، ولم يعوا أنّ البلاد تنهار إذ صدّقوا من «قتلوا الناس في الحرب الأهليّة، ثمّ طمأنوهم أنّهم لن يقتلوا مجدّدا شرط أن ينهبوهم؛ أي تمّ السطو تحت التهديد بالقتل، ودعوا ذلك سلام» على حدّ قول مثقّفة. لكن لا يمكن تأسيس ثورة بناء على العقل والوعي إلاّ إذا توفّرت ظروف أخرى كأن يشعر الناس بأنّ حياتهم وحياة أولادهم باتت في خطر، أو بأنّهم لن يرضوا دوس كرامتهم بعد الآن مقابل فتات حقوقهم. حتّى يصل يوم الانفجار الشعبيّ الكبير، وهو سيصل، هناك حوار ضروريّ بين الناس. من المفضّل أن يمتنع الإنسان عن نعت الناس المختلفين عنه بنعوت كالـ«غنم» وغير ذلك، فالناس تلحق بالزعيم لأنّها تريد أن تعيش، ومعظم الناس -متعلّمين أم أمّيين- لا يريدون أن يدفع ثمن الحرّية من الزعيم، يرضون بالفتات لأنّهم لا يرون طريقا آخر ممكنا. دلّي الآخر على الطريق الممكن الآخر أفضل من أن تضعي نصب عينيه عبوديّته. قد تكسبينه وقد لا تكسبينه ولكن على الأقلّ تتركي الطريق مفتوحة. الأمر الآخر الممكن، هو الفصل بين الموقف السياسي للشخص وبين الشخص نفسه، قد يكون الموقف السياسيّ الكارثيّ (وهو كارثيّ إن كان تبعيّا لأنّه شجّع ويشجّع السياسيّين على النصب والنهب والقتل) وليد المخاوف والإحباطات والاستسلام، وقد يكون نتيجة نظام وتربية جعلتا الإنسان ذليلاً ودعتا المذلّة «إخلاصا». طبعا بالنسبة للبعض قد تكون نتيجة استفادته المادّية الشخصيّة من الزعيم (الوظيفة أو الحماية من خطر)، ولكنّها أيضا قد تكون نتيجة استفادة معنويّة (الشعور بالكرامة مثلاً)، ولا يهمّ إن كانت الاستفادة حقيقيّة أو متخيّلة، فالنتيجة واحدة: استقالة للفكر الشخصيّ والتبعية العمياء للجماعة والقائد. دلّي الآخر على طريق أخرى أفضل لاكتساب الكرامة والحماية. أمّا اكتساب الرزق فصعب تركه مقابل شيء سيأتي لاحقا، لا يوجد سوى الانهيار المادّي لقدرة السياسيّين على توزيع الفتات قادر على كسر سلاسل «الإخلاص». يكاد يكون من المستحيل تغيير عقول الناس عن طريق الجدال الفكريّ معهم. في حالة المواقف المتضاربة، تدلّ الأبحاث أنّه عادة ما يكون لدى الإنسان شعور مبرم حول موضوع سابق لأيّ قول، ولا يأتي الكلام إلاّ لتثبيت الموقف المسبق. الطريق الأفضل للحوار، هو خلق الروابط والعلاقات الشخصيّة، فأقرب طريق للوصول إلى العقل هو القلب. تدلّ الأبحاث أنّ التعارف الشخصيّ، يجعل الآخرين مألوفون وبالتالي يخفّف من العدائيّة، فصداقة الأشخاص المختلفين معهم بالرأي تجعل الخلاف أقلّ حدّة لأنّها مرشّحة أن تضع عليه وجها انسانيّا. بعدها من الصعوبة بمكان نعت مجموعة بأبشع الصفات، فصديقتك وصديقك منهم، وأنت تعرفين وأنت تعرف أنّك تختلفين وتختلف عنهما بالرأي ولكنّهما ليسا خارج الإنسانيّة. ولربّما الخطوة الأولى لفتح طريق القلوب والعقول هو بدء أيّ حديث بالاعتراف بالخشبة التي في عين فريقك، قبل التوجّه لنقد القشّة أو الغابة التي في عين الفريق الآخر. يتكلّم الإنسان مع بعضهم وبعضهنّ، ويظنّ نفسه أمام نشرة الأخبار الفلانيّة: انعدام أيّ حسّ نقديّ وتفكير ذاتي ونقد للفريق الذاتيّ. أخيراً، ينصح الباحث في علم النفس الاجتماعيّ جوناثان هايت في بدء أيّ حوار، أن يبدأ الإنسان بذكر بعض الأمور الإيجابيّة في الفريق الآخر، حتّى ولو كان أمرا واحدا. مثلاً، أنا مقتنع أنّ الآخر الذي استغنى عن حرّيته هو انسان شريف يحاول أن يكسب حياته ويهتمّ بأولاده، ولكنّه لم يجد طريقا آخر غير الذي يعرفه: الاسترزاق من موائد المتنفّذين. بالطبع من يعتدون على الناس يجب أن يعاقبوا عقابا مناسبا لأفعالهم الشنيعة، ولكن حتّى هؤلاء ليسوا سوى أناس أذلّهم النظام السياسيّ اللبنانيّ واستخدمهم كأدوات قمع، كأشياء، هذا النظام المجرم الذي ينهب ويقهر ويستعبد، والذي قسّم الناس مجموعات عصبيّة في طوائف، فلم يتمكّنوا من أن ينظروا إلى أنفسهنّ وأنفسهم كمواطنات ومواطنين في دولة. تغيير النظام واجب يراه كلّ ذي عقل، ولكنّ العقل معطّل عند البعض، ويجب احتمال ذلك وبلوغ العقل من خلال القلب، وكذلك من خلال النضال الذي يدلّ الآخر أنّ طريقا آخر ممكنٌ خارج خطى النهاب الطائفيّ، إلى أن يكتمل الموعد مع ثورة كاملة، ويمدّ الناس أضلعهم ليؤسّسوا تاريخا جديدا، في شرق جديد، كما اشتهى الشاعر خليل حاوي. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |