في ساحة فرنسيس الأسيزي وهي من الأقدم في مدينة هافانا (١٦٢٨)، والواقعة أمام دير باسم القدّيس الكاثوليكي الذي التصق بالفقراء والطبيعة (١١٨١)، كانت تجري بكلّ سلاسة في الزمن الغابر تجارةَ العبيد.
يتساءل المرء ألم تُثِر تجارةٌ حوّلت الناس إلى بضاعة، ثائرةَ رهبانِ دير القدّيسِ الرقيقِ والصلبِ فرنسيس؟ لا أحد يمكنه أن يعلم ذلك، ولكنّنا نعلم انّ الكنيسة الرسميّة لم يُثرها موضوع العبوديّة كثيرًا عبر التاريخ، وسوّغت للعبدويّة فكريّا باستخدامها لأقوال من بولس الرسول الذي دعا العبيد في زمنه إلى طاعة سادتهم وأن يعملوا بضمير (أفسس ٦: ٥)، ونعلم أنّها استفادت ماليًّا من تجارة العبيد، الموضوع ليس وقفا على الكاثوليك أو البروتستانت، فالدولة البيزنطيّة استخدمت العبيد والكنيسة البيزنطيّة سنّت قوانين ذَكَرَتْهُم فيها، ممّا يعني أنّها قبلت وضعهم ولم ترفض وجوده. إن وضعنا الأمور في إطارها الحقيقيّ، نفهم أنّ الفكر المسيحيّ لبولس الرسول أو غيره، كان ابن زمنه في أمور كثيرة، تمامًا كما كان فكر أفلاطون الذين لم يدعُ إلى إلغاء العبوديّة ولم يرَ مساواةً بين الرجل والمرأة في جمهوريّته الفاضلة. لم تعِ البشريّة أنّ الأوضاع هي وليدة ظروف مادّية اقتصاديّة وسياسيّة واجتماعيّة إلاّ مع أشخاصٍ، أمثال كارل ماركس، الذي ندين له جميعا، فهمنا للعالم اليوم. ومَن تطهّر بحبّ الله، فصار يعلم، قَبل أن يموت، أنّ الحياة هي بالحبّ، يعلم أنّ الماركسيّة في ما سَعَت إليه من مشاركة وحرّية فيها شيءٌ من المسيح، وتذهب مذهب قدّيسين كالذهبي الفم وباسيليوس الكبير. كان بولس الرسول وغيره يرون أنّ ما يحدث على الأرض هو الموجود، ولا يمكن تبديله لأنّه لا بدّ وليد إرادة «إلهيّة»، وأنّ أفضل ما يمكنه أن يفعله الإنسان هو أن يدعو إلى المساواة في التعامل بين الناس مهما كان وضعهم. لهذا، بعد دعوة بولس للعبيد أن يطيعوا «سادتهم» وأن يعملوا بضمير، دعا «السادة» في الآية ٩ من الرسالة نفسها "وأنتم أيّها السّادة، افعلوا لهم [أي للعبيد] هذِهِ الأُمُورَ [الخير الذي طلبته من العبيد]، تاركين التّهديد، عالمين أنّ سيّدكم أنتم أَيْضًا فِي السماوات، وليس عنده مُحاباة"، أي هو لن يعاملكم بطريقة أخرى غيرَ بقيّة الناس فقط لأنّكم أصحاب مراكز. هذا القول ثوريّ في بيئة ذلك الزمن، فهو يرى الجميع متساوين أمام الله في ضرورة عمل الخير مع الآخر، رغم توزيع الأدوار الذي يفترض أنّه منسجم مع «إرادة إلهيّة». وثوريّة بولس تبدو بوضوح في مكان آخر فإنّه "ليس عبد ولا حرّ، وليس ذكر ولا أنثى، لأنّكم جميعا واحد في المسيح" (غلاطية ٣: ٨)، هذه نظرة خارقة في بيئة ذلك الزمن، فحتّى في زماننا، ملايين من المسيحيين لا يقبلون كلامًا كهذا. طبعا نحن نظنّ أنفسنا في وضع أفضل من بولس الرسول ورهبان دير ساحة فرنسيس (على افتراض أنّهم تصالحوا مع فكرة بيع العبيد) فنحن في القرن الواحد والعشرين والكنائس تغسل يديها من دماء العبيد التي سالت في أكثر من قارة ومنها الدول العربيّة. ولكنّني أعتقد أنّ ذلك غير صحيح، أنّنا نبرّئ أنفسنا بعجلة. نعم أعلم أنّ هناك رقيقٌ اليوم أيضا، حيث تخطف عصابات نساءً من ذويهم لتبيعهنّ ليتحوّلن لبيع أجسادهنّ تحت التهديد والتعذيب، هذا تدينه الحكومات والناس والكنائس. وأعلم أنّ هناك عبوديّة معاصرة في المنازل في بلادنا وتدينها المنظّمات الأهليّة بينما يستفيد منها المسيحيّون (والمسلمون) والكنائس الرسميّة (والمؤسّسات الإسلاميّة) باستخدامهم العمّال والعاملات الأجنبيّات العاملين والعاملات تحت نظام الرقّ المعاصر الذي ندعوه نظام كفالة. هذا نظام رقّ معاصر أتمنّى أن ينهار مع هذه الأزمة الماليّة في لبنان. ولكن هناك أيضا وأساسا نظام الرقّ الذي لا تراه الكنيسة الرسميّة إطلاقا لا بل وترعاه، هو نظام الرقّ الذي استعبد شعبا بأكمله (ما عدا طبقة الواحد بالمائة) خلال عشرات السنين وجعله يعمل بشكل عبوديّ لكي تُراكِمَ طبقةُ الواحد بالمائة من مصرفيّين وسياسيّين ورجال أعمال، ثروات واسعة وحشيّة - وحشيّة لأنّها مغمّسة بعرق وبدم المواطنين الذي يقتلون أمام أبواب المستشفيات، وببطء في بيوتهم، ببثّ هواءٍ ملوَّثٍ لتسميمهم، وبإعطائهم أدوية مزوّرة، وبمنع التغذية عنهم، وبتيئيسهم وإفقارهم وطردهم من بلادهم للعمل في الخارج... نظام الرقّ في لبنان يدعوه كهّانُهُ وتجّارُهُ "المبادرة الفرديّة" و"النظام الاقتصاديّ الحر"، ولا يراه معظم المسيحيّون والمسيحيّات، ولا تراه الكنائس ومسؤولوها الرسميّين المشغولين بـ«إتيكيت» التظاهرات وإخماد همّة الناس، على أنّه نظام عبوديّة. ولهذا يتابع نظام العبوديّة اللبنانيّ هذا، بيعَ الناس وجُهدِهم العضليّ والفكريّ، وعرقِهم، وآمالهم، وأحلامهم، في ساحاتِ المصارف والسياسيّين، أمام الأديرة والكنائس والجوامع، دون أن تنبسّ للكنائس شفةٍ ضدّهُ، لقلّة وعيٍ أو لجُبنٍ أو لإفادة. لا نستعجلنّ ونبرّئ أنفسنا اليوم من دعم العبوديّة والسكوت عنها. وحده ووحدها - وأنا واعٍ صعوبةَ ما أقول - مَنْ يدعون النظام اللبنانيّ القائم بأنّه نظام عبوديّ، ويدينونه لأنّه عبوديّ، ويرفضونه لأنّه عبوديّ، ويدعون لتغييره إلى نظام يحرّر الناس، جميع الناس، من العبوديّة الاقتصاديّة والسياسيّة، يمكنهم أن يكونوا منسجمين مع رسالة التحرير التي أتى بها يسوع، ومع كلام بولس أنّ "الجميع واحد في المسيح"، ويمكنهم أن يحموا دماءهم ودماء أطفالهم من العبوديّة، ويغسلوا بالفعل أيديهم من الدم الذي يسفكه هذا النظام ويسكر به مَن ظنّوا أنفسهم «أسياد» مالٍ وسياسةٍ ودينٍ إذ أسكرتهم رائحة الدم، ككلّ متوحّش حقيقيّ فَقَدَ الإحساس. خريستو المرّ (الصورة ساحة فرنيسيس الأسيزي - هافانا) Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |