خريستو المرّ
الثلاثاء ٤ كانون الثاني/ يناير ٢٠٢٢ ٦ كانون الثاني من كلّ عام هو عيد الظهور الإلهيّ والذي تتّخذه معظم الكنائس الأرثوذكسيّة (بلادنا استثناء) والكنيسة القبطيّة والأرمنيّة مجالًا للاحتفال بميلاد يسوع. العيد يدور حول معموديّة يسوع في نهر الأردن على يد نبيّ اسمه يوحنّا مُلقَّب بالمعمدان. اختصار الرواية الانجيليّة أنّ يوحنّا كان يذكّر الناس بضرورة التوبة لأنّ ملكوت الله قريب، وأنّه كان يعمّدهم في نهر الأردن مُعلِنًا أنّه يعدّ طريق المسيح الآتي عن قريب. يأتي يسوع إلى يوحنّا ليعتمد أيضًا، يتمنّع يوحنّا أوّلا لأنّه يرى في المسيحِ رجلَ الله الـمُنتَظَر، لكنّ يسوع يُصرّ على إتمام مشيئة الله ويعتمد من يوحنّا، وتُخبر الرواية الانجيليّة أنّ "السماوات انفتحت" وأنّ الروح القدس نزل على يسوع بهيئة حمامة، وأنّ صوتًا من السماء سُمِعَ يقول "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت". بعدها يذهب يسوع إلى الصحراء ويبقى صائمًا مدّة أربعين يومًا، يجرّبه الشيطان خلالها، ولكنّ يسوع ينتصر على التجارب. ماذا يمكن أن نفهم من ذلك؟ وما علاقة له بحياتنا اليوم؟ يمكن للمتأمّل أن يرى أنّ خروج يسوع من المياه بعد العماد وبقائه أربعين يوما في البرّية يذكّر بخروج العبرانيّين من مصر وعبورهم الصحراء أربعين سنة، بحسب رواية العهد القديم. يسوع يلخّص، إذًا، مسيرة الشعب العبرانيّ. إلّا أنّه مقابل وقوع الشعب في فخّ عبادة الأصنام أثناء عبوره الصحراء، ينتصر يسوع على التجارب في البرّية. يسوع يبدو أيضًا على صورة الله الراعي والمفيض روحه في الكنيسة، فالله بحسب ما ذكر إشعياء "أصعد شعبه من البحر، ورعاهم كغنمه، وجعل في وسطهم روحه القدّوس". أمّا تعبير "ابني الحبيب الذي به سُرِرْتُ" فعدا ذكره الحرفيّ في مقطع من كتاب المزامير، فهو يذكّر بإسحق ابن ابراهيم الذي تقول الرواية الكتابية أنّ الله عندما دع ابراهيم لتقديمه أضحية سمّاه "وحيدك الذي تحبّه". المسيح، إذًا، هو الابن، ولكنّه أيضًا الأضحية، القربان، هو الـمُقَرَّب، ولكن هو الـمُقَرِّب نفسه أيضًا، وطالما رأى المسيحيّون في المعموديّة، في نزول الماء والخروج منه، إشارة إلى الموت والقيامة. معموديّة يسوع تشير مسبقا إلى موته وقيامته. لكنّنا نرى أيضًا في معموديّة يسوع في الأردن إشارة إلى الحرّية والفرح، فنزول الروح القدس، يذكّر بمقطع كتابيّ يقول فيه أشعياء أنّ "روح الربّ عليّ لأنّه مسحني لأبشّر المساكين، أرسلني لأجبر منكسري القلوب، لأنادي للمُستَعبَدين بالحرّية، وللمأسورين بالإطلاق... لأعزّي كلّ النائحين". ويسوع نفسه ذكّر بهذه الكلمات في أوّل خطوة علنيّة له قبل بدء عمله البشاريّ على الأرض. أخيرًا تذكّرنا صورة الروح النازل على يسوع على شكل حمامة، بـ"روح الله" الذي "يرفّ على وجه المياه" في رواية التكوين والتي تصوّر بدأ عمليّة الخلق. هكذا، في معموديّة يسوع تبدو لنا إنسانيّته إنسانيّةَ خليقةٍ جديدةٍ تجدّد الكون، أو تؤسّس لكونٍ جديدٍ مبنيٍّ على الحرّية والفرح. رسالة يسوع هي رسالة تجديد العلاقات البشريّة لتصبح علاقات حرّية وفرح، في كون جديد يلفظ الاستعباد والاستغلال، كونٍ مبنيٍّ على التعاطف ولهذا مبنيٌّ على المشاركة. بهذا يسوع هو الراعي الصالح، هو الذي يلخّص في ذاته مسيرة الناس عندما يصبحون بالفعل "شعب الله"، عندما يكونون مستعدّين أن يقدّموا أنفسهم أضاحيَ حبّ، وأن يحتملوا الهزء والألم، والنبذ أحيانًا، وربّما الموت، وأن يحتملوا كونهم "قطيعًا صغيرًا" يُهزأ به من "الجموع"، من أجل أن تنتصر الحياة الجديدة، من أجل أن يحيا الإنسان حقًّا، أن يحيا حُرّا وفرحًا في كرامة. "شعب الله" هم أولئك الذين يسعون إلى الحرّية والكرامة، والمتعاطفون ولذلك مشارِكون للمحتاجين، محرّرين أنفسهم وغيرهم من الأشياء ليحيوا بتجديد العلاقات الإنسانيّة. بهذا هم يتمّمون مشيئة الله، ويصبحون إخوة يسوع، "عظم من عظامه ولحم من لحمه" في إنسانيّته الجديدة التي تجدّد وجه الأرض، وتجعلها أرض حبّ مُشارِك فيُسَرُّ اللهُ بخلاص البشر من وهم الحياة، وبقيامتهم من الموت. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |