خريستو المرّ
الثلاثاء ١١ كانون الثاني/ يناير ٢٠٢٢ الإيمان الأصيل بالله ليس مجرّد تصديقٍ بوجود الله أو بفكرة وجوده. هو علاقة. الإنسان المؤمن يرى ما يعتقد أنّه آثار الله في هذا الكون، لكنّ الله يبقى لديه غير مرئيّ ظاهريًّا. ولهذا فإنّ الإيمان مرتبطٌ بعلاقة بآخرٍ لا نراه. في عالمنا، يرتبط الإيمان ارتباطًا وثيقًا بعدم الرؤية. لهذا الإيمان تمرينٌ على امتداد الرغبةِ إلى آخرٍ حاضر-غائب، إلى هذا – ذاك، إلى الحاضر حضورًا ضبابيًّا في «الآن» والذي نرجو لقاءه "وجها لوجه" في «الآتي»، ونكتفي الآن بملاقاته-مخاطبته في سلسلة من الاتّصال والانفصال، من الوصول والانطلاق، من الـمُحال الذي يتحقّق، والتحقّق الذي لا نبلغه أبدًا. المحبّون يفهمون ذلك تمامًا لأنّهم أبدا يعيشون القمم الخائبة، تلك القمم التي تفسح عن قممٍ أعلى، حتّى يتّسع القلبُ أمام لانهائيّة الرغبة. من زاوية عدم الرؤية، كلّ إنسان ملتزمٍ بمبدأ هو انسان مؤمن. مَن يعمل من أجل تحقيق مبدأ على الأرض، كالحرّية من الاستغلال، مثلًا، هو إنسان مؤمن، لأنّه يسعى إلى ما لم يرَ، يسعى إلى تحقيق مبدأ لا يوجد بشكل ناجزٍ أبدًا، إنّه "يرى" المبدأ قبل أن يراه، يصدّق إمكانيّة تحقيق عالم لا استغلال فيه مع أنّه عالمٌ غير موجود الآن، وربّما لم يوجد أبدًا في التاريخ. لولا الإيمان (بالمعنى العام) لما تمكّن أيّ إنسان من السعي لتحقيق توق. بالطبع هناك أهداف مدمّرة للتوق الإنسانيّ (جمع المال كهدف) وأهداف تَبني (عيش المحبّة كهدف) لكن هذا موضوع آخر. من زاوية الإيمان (وخاصة الإيمان بالله)، يمكن تجاوز الشعور بالإحباط واليأس من الأوضاع في لبنان وفي سوريا وفي فلسطين، حين يتذكّر الإنسان معنى الإيمان: رؤية مَنْ لا يراه أو ما لا يراه بالعين. إنّ العدالة والحرّية المطلوبان في هذه البلاد وغيرها غير موجودة اليوم، ولكنّ المؤمن يسعى إلى تحقيقهما (ولو هاجر) لأنّه يؤمن بأنّ ذلك ممكن، وبأنّه ضروريّ، وبأنّه مسؤوليّة. لماذا يسعى الملتزمُ بمبدأ إلى تحقيقه؟ ليس فقط لأنّ الناس تستحقّ ذلك، وإنّما أيضًا لأنّه يريد أن يكون مخلصًا لذاته، ولإيمانه، أي أن يبقى إنسانًا متّحدًا بذاته، غير منقسم على نفسه، وأن يبقى - إن كان مؤمنا بالله - على إخلاصه لعلاقة المحبّة التي تجمعه بالله والتي لا يمكن فصلها عن محبّة الناس وخدمة إنسانيّتهم. أن يؤمن الإنسان هو أن يتجاسر على الواقع، وأن يطلب المستحيل كلّه، وفي الآن عينه أن يعمل بالمعطيات الـمُتاحة ويوسّعها ليمدّ الواقع إلى الأمام. الإيمان هو هذا الرجاء المتناقض الذي يعرفه الساهرون، هو الرجاء بالضوء الكامن في المحبوب حتّى عندما يغيب الضوء، هو الرجاءُ بمجيءِ المسيح بتحضير هذا العالم لذاك المجيء. هذا الرجاء لا يعرف الرضوخ، إنّه رجاءٌ يفتّش دون كلل عن كلِّ إمكانيّةٍ في كلِّ واقع. العمل على إحلال العدالة والسلام في هذا العالم، هي حكاية إيمانٍ يدفعك دفعًا داخليّا كي تطلب المستحيل وتعمل لأجله، ليس من أجل الآخرين فقط وإنّما من أجلك أنت أيضا، لأنّك تريد أن تكون أنت المتّحد بنفسك. لبّ الإيمان أن يحبّ الإنسان نفسه والآخرين، وهذا يدور في فلك حبّ الله عند المؤمنين به. الالتزام والنضال جذورهما حبّ، وعند كاتب هذه السطور جذورهما حبٌّ جسّده طفلٌ في مغارةٍ، صَعِدَ بالأوجاع جلجلة انتصاره يومًا، ثمّ غفا في مزود القبرِ ليفجّره بالحياة من الداخل. كيف يمكننا أن نكون الحياة البازغة وسط الموت؟ هذا هو السؤال الذي ينبغي أن نبحث عنه، ليس لوحدنا، بل مع غيرنا. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |