خريستو المرّ
الثلاثاء ١٢ كانون ثاني/يناير ٢٠٢١ إنّ محوريّة الانسان والخليقة، في الإيمان أمرٌ أساس؛ فالإيمان بالله لا يجعل من الإنسانِ أو الخليقةِ أمرًا أقلّ شأنًا من الإله. إنّ أهمّية الله لا تهمّش أهمّية الخليقة، والإنسان تاجُ الخليقة، وإنّما تزيد من تلك الأهمّية. فالمسيحيّة، مثلاً، تؤمن أولا أنّ الله خلق الإنسان على «صورة الله»، أيّ أنّه مخلوق مُنِحَ العقل، والحرّية والقدرة على المحبّة؛ والإسلام يرى الإنسان «خليفة الله في الأرض»، وما هذه العبارة ببعيدة عن فكرة «صورة الله». وبالتالي إنّ الإنسان ليس فقط مهمّ ولكنّه بالغ الأهمّية لأنّه صورة الله وخليفته، ومن خلاله نلامس ونتأمّل الله بشكل خاص، ولهذا قيل في الأدب الرهباني الصافي"بَعْدَ الله، علينا أن نعتبر كلّ إنسان وكأنّه الله نفسه". بالإضافة إلى ذلك، المسيحيّة تؤمن أنّ كلمة الله تجسّد، فاختبر الإنسانيّة من الداخل وعاشها حتّى الموت على الصليب، وبأنّه بقيامة المسيح بات الله حاضرًا في «القلب» البشريّ بشكل مميّز وحميم، بحيث أنّ الله والإنسان باتا في تداخلٍ حُبِّي يغذّيه الروح القدس. بالمسيح، بات الله في قلب الإنسان كما بات الإنسان في قلب الله، في وحدة حبّ تحترم التمايز الجذريّ بين الخالق والمخلوق، وبين الفرادات. وهذا ما يرفع أيضًا من قيمة الخليقة والإنسان لكونهما محبوبين الله، فما يمسّ بالإنسان وبالخليقة يمسّ بالله بشكل من الأشكال. أمّا الإيمان بالخلق من العدم، فهي اعتقاد بأنّ الخليقة موجودة ولكنّها ليست موجودةً بذاتها، بل لأنّ الله خلقها. لكنّ الخلق من العدم ليس أمرًا حدث مرّة في الماضي، في بدء الزمن، وإنّما يحدث في كلّ لحظة، بحيث أنّ الخليقة تستمرّ في الوجود فقط لأنّ الله يمنحها أن توجد في كلّ لحظة، كنعمة منه، كتعبيرِ حبٍّ منه. هذا يعني أنّ الوجود هذا، الملموس، المادّي، حياة الإنسان والخليقة الملموستين، لهما أهمّية عُظمى؛ وأنّ الدفاعَ عن الحياةِ هو مسؤوليّةٌ إيمانيّة، كونه عملاً مشتركًا مع الله كي تستمرّ الحياة وتتأجّج بنار المحبّة الإلهيّة-الإنسانيّة فتتحوّل الأرض إلى صورة عن «السماء»، حين تخترق نار المحبّة والمشاركة الحياةَ اليوميّة فتتوهّج هذه وتتجلّى في السياسة والاقتصاد والتربية والعمل والتسلية والضحك والبكاء والصحّة والمرض، والعلاقات الإنسانيّة. الخلاصة تكمن في أنّ الإيمان في صفائه يدعو إلى احترام ومحبّة هائلين لحياة الإنسان وللخليقة. هذه الخلاصة ليست مستحيلة التطبيق، فبالفعل «لا يكلّف الله نفسًا إلّا وسعها». إنّ النتائج البحثيّة المتراكمة في علوم النفس تبرهن أنّ عبارة «الإنسان ذئب الإنسان» غير صحيحة وتشوِّه الواقع؛ فالدراسات تدلّ بشكل حاسم أنّ الإنسان مفطورٌ على التعاطف والتعاضد مع الآخرين، بحيث لا يوجد مجال للشكّ بأنّ دعوة الله كي يحبّ الإنسان الآخر فيكون بالفعل خليفة الله، هي دعوة ممكنةٌ، ومنسجمةٌ مع تكوين الإنسان، ومغروسةٌ في طيّات الجسد والنفس (هنا نذكّر أنّ المحبّة ليست شعورًا «ورديًّا» تجاه الآخرين، وإنّما موقفٌ حياتيٌّ مُتعاطِفٌ مُتعاضِدٌ، أي مُدافِعٌ عن الحياة يأنف المسّ بها؛ وهو، بالطبع، قد ينجح وقد يفشل). كلّ تهميش للإنسان وللحياة الأرضيّة تحت حجّة "سماويّة" هو موقف منحرفٌ إيمانيًّا، يُنتج أحيانًا كراهيّة وتدميرًا، وأحيانًا خنوعًا للأحداث بمبرّرات جبريّة، أو إحجامًا عن الفعل وانطواءً في الطقوس، ويقلّل من شأن الواقع الملموس لصالح غيبٍ منفصِلٍ عن الواقع من نسج الأوهام. المواقف المستهترة تجاه كورونا لا تنسجم مع الرؤية الإيمانيّة الأساس. لا تواجَهُ كورونا بذهنيّة لاعقلانيّة تستهتر بصورة الله في الإنسان (العقل)، ولا بجبريّة قدريَّةٍ تترك للمشيئة الإلهيّة أن تختار المصير بينما المشيئة الإلهيّة بتصويرها الإنسان «خليفة» الله وصورته، عبّرت أنّها تريد للمشيئة البشريّة أن تكون شريكتها الكاملة في تقرير المصير الشخصيّ والجماعيّ للخليقة. إنّ العبثيّةَ والتهوّر يُشيران إلى مقدارٍ كبيرٍ من التصرّف العدميّ الذي يتعارض مع الإيمان، وهي عدميّة يشجّع ظهورها انهزامٌ مجتمعيٌّ - نرجوه ظرفيًّا - أمام النهب الـمُمَنهج، وتدهورٌ للأمان الاجتماعيّ-الاقتصاديّ. لكنّ هناك خيار آخر: أن ننهل من الجذور الإيمانيّة لشحذ الرغبة بالحياة، وندافع عنها كمشروع إنسانيّ-إلهيّ متجذّر بمُعَلِّمِ احترام الحياة والحرّية، الذي «ضرب خيامه بيننا» واحتفلنا بذلك منذ أيّام. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |