خريستو المرّ
الثلاثاء ٥ كانون الثاني/يناير ٢٠٢١ من وقت لآخر تظهر في الكنيسة الأرثوذكسية نوعيّة من التفكير تَشي بأنّ العالمَ مكانٌ مليءٌ بالشرّ وبمؤامرات سرّيةٍ لا تنتهي لضرب الكنيسة؛ وطالما أنّ المؤامرات الـمُفترضة سرّية فلا نفهم كيف يمكن تأكيد أيّ شيء حولها، ولهذا يمكنك ربط ما شئت بما شئت، وتخيّل ما شئت، وتحويل كلّ تحدّ واقعيّ في عالمنا إلى «مؤامرة»، أكان التحدّي فيروس كورونا، أم التحرّش الجنسي في الكنيسة، أم المثليّة، أم الإجهاض، إلخ. المؤامرة تنجّي الناس من التفكير ومواجهة الواقع وتحمّل مسؤوليّة الحياة وما تقتضيه من تغيير، هي وصفة للكسل والانغلاق وللكراهية. والفكر المؤامراتيّ مهدِّمٌ في النهاية، وفيروس كورونا فَضَحَ تأثيره القاتل؛ فمقابل التوصيات الطبّية بضرورة التباعد ووضع الكمّامات، حمايةً للذات وللآخرين، تصاعدت الأصواتُ تشكّك بوجود الفيروس، وتعتبره جزءًا من مؤامرة كونيّة، معتمدةً على ترّهات تفوّه بها بضعة موتورين، ضاربةً بعرض الحائط كلّ النتائج العلميّة التي يقوم بها آلاف من البحّاثة عبر العالم. ونتلمّس تأثير غياب العقل في أمور الإيمان أيضًا، بشكل غياب في القدرة على التمييز. فمع فيروس كورونا، تصاعدت اتّهامات بالهرطقة لكلّ من تسوّل له نفسه الدعوة إلى ابتكار وسائل أخرى للصلاة الجماعيّة والمناولة، تحترم الحياة أمام الواقع الفتّاك. فصار استخدام الملعقة - وهو أمرٌ لا معنى له لاهوتيَّا - عند "عُتاة" الأرثوذكس جوهريّا حتّى العظم، وصارت الدعوة إلى الامتناع عن الاجتماع الصلاتيّ والتبصّر في خطوات أخرى لمتابعة الحياة الصلاتيّة والمناولة، هرطقةً وكفرًا بالإيمان "القويم". وفجأة صارت المناولة دواءً شافيًا للجسد، مع أنّ القائلين بذلك - ويا للعجب - لم ينفكّوا يوما عن طلب الطبابة. وغدا الموت بكورونا تعبيرًا عن الشهادة من أجل يسوع، في خلط بين معنى الشهادة الإيمانيّة والانتحار والقتل، بين الموت الذي قد يَنتجُ عن عدم التراجع عن الإيمان، وبين رمي الذات في التهلكة انتحارًا ذاتيّا وقتلًا للآخرين. في كلّ هذا، نحن أمام ضياع العقل والخلط بين الجوهريّ والعرضيّ، بين الإيمان وبين السحر، في حماسة سطحيّة تشوّه الإيمان. وما أضعف القدرة على مواجهة التحدّيات اليوم هو ما سمعناه من خطابات لاهوتيّة شكّكت لسنوات بالعقل دون تمييز، ووضعت "النسك" الأرثوذكسيّ في مواجهة مع "العقلانيّة" واللاهوت الغربيّ، بل والغرب كلّه على أساس أنّ كلّ نتاجه منفصل عن الله ودهريّ! طبعًا، من حسن الحظّ أنّ معظم المسؤولين الكنسيّين دعوا إلى إقفال الكنائس أمام التجمّعات، وإنْ ما زالوا يبدون نقصًا فادحًا في القيادة يجعلهم يُحجِمون عن أيّ خطوة ودراسة عقلانيّة لمواجهة أوضاع مستجدّة ومخاوف (المناولة من الملعقة، مثلًا) ستبقى ملحّة لسنوات بعد كورونا. تلتقي هذه المواقف كلّها على أمر واحد: إنّها لا تأبه لحياة الإنسان. جذور هذه الأزمة تكمن في أنّ حياة الإنسان الملموسة لم تعد محور الإيمان؛ إذ غدا الإيمان، في بعض التعليم الدينيّ، وكأنّه صراعٌ بين الإنسان وبين الله تُعطى فيه الأولويّة لله على الإنسان. ينسى أصحاب هذا التوجّه أنّ الله نفسه ليس مرغوبًا إلاّ لكونه يحبّ الإنسان أولاً قبل أن يطلب من الإنسان أن يحبّه بحرّية؛ وأنّه لذلك يريد للإنسان الحياة والحرّية. لولا ذلك لكانت علاقتنا بالله إرهابًا وعبوديّةً ولما كانت مرغوبةً أبدًا. إنّ إعادة الاعتبار إلى محوريّة الإنسان-الشخص في الفكر والممارسة الدينيَّين أساسٌ للبدء من الخروج من هذه الأزمة. ولتكون هذه المحوريّة حاضرة أبدًا حتّى في حالة غياب العقلانيّة، لم يتركنا الله بل وضع فينا غريزة الحياة التي تدفع الناس لحماية أنفسهم وكبارهم وصغارهم. لاهوتيّا، غريزة الحياة هي من آثار خلق الإنسان من العدم، وتوقه الدائم إلى التمسّك بالحياة، وعدم العودة إلى العدم، ومن هنا خوف الإنسان من الموت. خاف يسوع من الموت، لأنّ الطبيعة الإنسانيّة نفسها ترفض الموت. رجاؤنا اليوم أن تسدّ غريزة الحياة الفجوة التي تركتها اللاعقلانيّة عند الكثيرين. بالطبع يمكن للإنسان أن يتجاوز الخوف من الموت فيضحّي بنفسه فداءً لآخرين أو إخلاصًا لذاته (إيمانه مثلاً)، هذا لا يقوم به من يرمون اليوم أنفسهم وغيرهم في التهلكة، هؤلاء يقدّمون أنفسهم أضاحٍ أمام صنم الموت، من يقدّم نفسه فداءً، اليوم، هم الأطبّاء والممرّضات ومصوّري الأشعّة وعمّال الخدمات الأساسيّة (أكل، شرب، صيدليّات، إلخ)، ومن يضطر أن يعمل لأنّه إن لم يعمل سيتضوّر وعائلته جوعًا في ظلّ غياب وجود دولة. هؤلاء شركاء إله الحياة في خدمة الحياة. الشكر لهم ولله واهب نعمة العقل، وخالق غريزة الحياة، اللذين بهما ينادينا إلى الحياة الحقّة التي هو لبّها. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |