الثلاثاء ٢٨ كانون ثاني ٢٠٢٠
طالما سألني أصدقاء أن لماذا تتعب نفسك وتكتب؟ لو توظّف وقتك بأمور أخرى لكنت فعلتَ كذا وكذا، وحقّقتَ كيت وكيت. ولا يكتب الإنسان إلاّ لأنّه يجد نفسه مضطرًا أن يبلّغ، أن يشهد، أن يشارك، علّ هناك من يرى ما يراه، فتصبح الكثرة واحدًا، علّ الذي يتشاركون الرؤية لا يشعرون بالعزلة، لا يختنقون بها فيستسلمون، علّهم لا يضلّون الطريق فيخونون أنفسهم يوم يظنّون أنّهم يربحون العالمَ، والعالمُ لا يُربَح، العالم يمضي ولا يبقى بعد الرحيل إلاّ تأجّج الحياة في عمق الذين ناضلوا ضدّ أنواع الموت الحرام، موت الظلم؛ لا يبقى إلاّ التماع قلوبهم بحياة تفجّرت فيهم قبل أن تلاقي نبعها في وجه الله ربّ الحياة. يكتب الإنسان كما يتنفّس، ويكتب كي يتنفّس. كلّما نظرتُ إلى جملة يسوع "ماذا ينفع الإنسان أن يربح العالم ويخسر نفسه أو يفقدها" أجدها جديدة وثوريّة. هي تماما في تناقض مع هذا الدهر، مع "الدهاء" السياسيّ، «والشطارة»، والمساومات التي تنتهي دائمًا بأن يبيع الإنسان الحقّ ويبيع نفسه، ثمّ يغلّف كلّ ذلك بزبد الكلام، أي بالهروب من نفسِهِ. ينهبون في لبنان وفي سوريا وفي العراق وفي كلّ مكان، يقتلون الملايين ببطء، مرضًا إثر مرض، وتهميشًا إثر تهميش وتعسّفًا إثر تعسّف، وفقأً لعين إثر عين، وسجنا إثر سجن، وتعذيبًا إثر تعذيب. يقتلون إنسانا إثر إنسان. ولا يشعرون، وقيل يوما أنّ الخطيئة هي عدم الإحساس. يتساءل الكثيرون أن لِمَ يسرق الإنسان الجشِع ما لا يحتاجه؟ المال في العمق مطلب سلطة، وليس مطلب مال. المال وسيلة سلطة؛ والسلطة المطلقة التي يتوهّمها إنسان، تجعله يتذوّق شيئا من لانهائيّة، تجعله يشعر بأنّه يتجاوز محدوديّته كإنسان. السلطة المطلقة بالمال أو بأدوات القمع، توهم الظالم بأنّه مُطلق. هذا بالطبع وهمٌ، وهمٌ سيصطدم به الإنسانُ عاجلاً بارتطامه بحائط الموت. وقبل الموت بقليل – أن سنحت للإنسان الهارب من وجهه فرصة - سيعرف أنّ هروبه الكبير من المحدوديّة بوهم السلطة المطلقة (ولو كان يمارسها على جماعة صغيرة) كان هروبا من نفسه. هناك، أمام حتميّة الموت، وفي فراغ يده، سيعرف أنّ حياته كانت طبقات، خلف طبقات، خلف طبقات من الجرائم، في وسطها اللاشيء، الفراغ؛ سيعرف أنّه خسر نفسه أو فقدها، ويقف في الرعب الكامل، رعب العزلة المطلقة. لكنّ المحدوديّة وعدم الرضى بها، إشارة حقيقيّة، رمز قويّ داخلنا. وعوض السلطة الإجراميّة المطلقة التي توهم الإنسان بتجاوز محدوديّته، هناك طريق حقيقيّ يمكّن الإنسان بأن يتجاوزها، هو الحبّ، بالمعنى الخاص والعام للكلمة. بالحبّ لا يعود الإنسان واحدًا مغلقًا، بل يكتشف المشاركة، يكتشف عالمًا آخرَ ممكنًا وموجودًا في قلب هذا العالم، عالمًا يكون فيه الإنسان ذاته دون أن يكون معزولاً، ويكون فيه مع غيره دون أن يخسر نفسه، عالمًا هو فيه حيٌّ ليس لأنّه كلّي السلطة وإنّما لأنّه كلّي القابلية للعطب، لأنّه يقبل كلّ لحظة أن يدخل في تلك المغامرة التي تجعله جميلاً، وتجعل كلّ شيء جميلاً، ولذلك تجعل كلّ شيء بنكهة الخشية من الفقدان، الخشية التي لا يتجاوزها الإنسان إلاّ بإيمانه بأنّه أوسع بما لا يُقاس من كلّ خيبة، وبأنّ الحياة التي تتفجّر فيه هي في نفس الوقت أعمق منه بما لا يقاس، وبأنّه يسير في قافلة المحبّين الذين معه والذين سبقوه. طريقٌ آخرَ هو الحبُّ، وفي العمق هو الطريق. والحبّ لطيفٌ مع الآخرين الضعفاء، ولكنّه غضوب على الظلم وشجاع أمام الظالمين، ولهذا الحبّ متوثّب، حيويّ. الحبّ لا ينام نومة الموت. والحبّ وسط جماعة المظلومين اسمه نضالٌ، نضالٌ من أجل الحياة. بالنضال ينتعش الإنسان لأنّه يشارك غيره دون أن يخسر نفسه، وبالنضال ينتعش حبّ المحبَّين لأنّ حبّهما لا ينغلق على ذاتين وحاجتيهما بل ينفتح على فضاء الجماعة؛ بالنضال يعترفان بأنّ حاجة الآخرين للحياة والفرح هي عندهما بأهمّية حاجتيهما للحياة والفرح. في نضال المُحِبّ من أجل الإخلاص للآخر، ونضال المحبَّين من أجل الإخلاص للجماعة، يربح الإنسان نفسه حيّة، حتّى ولو تجرّحت حتمًا بما يحمله العالم من خيانات وخيبات ونكسات، ومن محدوديّات فيه وفي الآخرين. عندها لا تصبح المحدوديّات عدوّة، عندها ترى العالم كما هو بمحدوديّته وبإمكانيّاته اللامتناهيّة بولادة الفرح والجمال، عندها ترى أنّ اللبّ هو في أن تحيا لا في أن تكون لامحدودًا من ذاتك، وتتذوّق تجاوز المحدوديّة الذاتيّة بامتدادك إلى الآخر، بالحبّ الذي يستولد الحرّية ويولد بها، وبالنضال الذي يشعّ من الحبّ كضوء لا يمكنه أن يخبّئ نفسه. وبعد الموت يقف المحبّين وجها لوجه أمام سيّد الحبّ، هو الذي هو الحبّ نفسه. لم يَعِدْ يسوع أحدًا بانعدام الألم، أو بحياة سهلة، ما قاله هو أنّ الحبّ المناضِل هو سيّد هذا العالم، وأنّه انتصر بعد أن ظنّ الجميع أنّه فشل فوق الصليب. يسوع شهادةٌ بأنّ الكلمة الأخيرة في الكون هي للحياة والحبّ لأنّ الله محبّة. بهذه الثقة، نواجه بالحبّ المناضلِ كلّ جريمةٍ وكلّ ظلمٍ، ونعرف أنّنا عندها نكون في خطّ الله، خطّ الكفاح من أجل الحياة والفرح والحقّ، خطّ تعميد هذا العالم بنار الروح، النار التي قال عنها يسوع أنّه جاء ليلقيها «جئت لألقي نارًا على الأرض وكم أتمنّى أن تكون قد اشتعلت»، لنحرص على الاشتعال بهذه النار لتمتدّ فرحًا للعالم وليسوع. كلّ تطبيع مع الظلم ظلمة، وفي جماعة المحبّين الظلمة «لن تمرّ» والظالمون «لن يمرّوا»، ولن يُمشى في أثرهم، في إثر الوهم، وأمير الوهم. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |