السطو الجماعيّ على الله: حكاية البطل والجلاّدالثلاثاء ٧ كانون ثاني/ يناير ٢٠٢٠
في العلوم الطبيعيّة نحن نقارب معرفة الواقع الطبيعيّ كما هو مع كلّ تقدّم علميّ. لكن فعليًّا نعيش كلّنا في حكاية، فردا وجماعات. الشيء الذي ندعوه واقعا في الحياة العلائقيّة (الفرديّة والجماعيّة) هو حكايتنا، ففيها ليس من واقع كما هو، إلاّ عند الله الذي يعرف بالفعل. يشترك الأفراد والمجتمعات في ترتيب مكان لمقدّساتها في وسطها. تعبد الشعوب والجماعات مقدساتها (القائد، المبادئ، المؤسِّس الأوّل، العلم، إلخ.)، ومقدّسات الجماعة ليست هي الله حتّى ولو كانت الجماعة مؤمنة بالله لفظيًّا. وهذه المقدّسات جميعا ما هي إلاّ رموز لأمر واحد: الجماعة نفسها. وحتّى أختصر كثيرا، في مجتمعاتنا قلّة قليلة تعبد الله، أو مبدأ معيّن، وتعني ذلك بالفعل المعيوش. معظمنا يقول أنّه يعبد الله وهو بالفعل يعبد قبيلته الدينيّة، بعد أن يماهي بين الجماعة وبين الله، وبين طقوس الجماعة وبين الله. ما يبيّن ما نقوله في مجتمعاتنا هو أنّ الطوائف المتكتّلة تعامل أيّ شخص يخالفها حتّى سياسيّا أو فكريّا أو اجتماعيًّا معاملة كافرٍ أو هرطوقيّ. فهناك سطو على الله تمارسه الجماعة الطائفيّة، القبيلة الطائفيّة، بحيث تغدو هي ممثّلة لله، ويغدو رأيها حتّى السياسيّ (ذاك الرأي الذي ينطق به قادتها فقط) هو رأي الله نفسه، وكلّ خارج عنه خارج عن الإيمان. وما يؤكّد ذلك أنّ الإنسانَ الخارج عن الرأي الجمعيّ في للجماعة، حتّى في أمور المجتمع والسياسة والفنّ، والذي يعبّر عنه قادتها حصرًا، يُعامل معاملة الخارج عن الإيمان بحيث يُقتَل، أو يُهَدّد بالقتل، أو يُنبَذ اجتماعيًّا، والنبذ هو عمليّة قتل معنويّة شرسة وعنيفة. لا مكان للفضاء العام الاجتماعيّ المشترك بين الناس بغضّ النظر عن اعتقاداتهم في الفكر الجمعيّ المغلق العابد لذاته. طبعا الجماعات غير متراصّة في وحدة تامّة، وهناك تيّارات، ولكن لهذا بالضبط تسعى التيّارات المسيطرة إلى قمع أيّ اختلاف وتعتبره "نشازًا". يكره عبّاد الجماعات التنوّع. يفهمون الوحدة المطلقة تجانسا تامًّا. يستخدمون الله وسيلة للتجانس، ويستخدمون التجانس وسيلةً لتحويل الجماعة إلى أداة بيد القادة. في خضمّ كلّ هذا، تأتي حكايةُ بطل الجماعة، والبطل ليس سوى ذاك الحامي لمصالحها ولوجودها. قد يكون رئيسا أو قائدا عسكريّا أو قائدا علمانيًّا (أرسله الله أو الكون) أو قائدًا دينيّا لا يهمّ، ففي مطلق الأحوال ما يحدّد بطولته هو أنّه يساهم في تقدّم مصلحة «الجماعة»، وبالأحرى المهمّ أن تعتقد الجماعة أنّه ساهم في تقدّم مصالحها وحمايتها، وهنا يكمن فِعْلُ الحكاية. فالمهمّ أن تعتقد الجماعة بواسطة حكاية (دعاية، خطابات، كتب تاريخ، إلخ) أنّ مصالحها وحمايتها تقدّمت وأنّ أشخاصًا ما هم أبطالها، ولو أنّ أبطالها ربّما يقودنها إلى الإبادة. في حكاية أولى كان هتلر، مثلاً، «بطلاً» قوميّا قبل أن يُدخِلَ العالم في جحيم الإبادات، ويقود بلاده إلى التفكّك والانهيار. ما عاشه الناس في النهاية جعلهم يكتبون حكاية أخرى. و«البطل» في حكاية جماعة ما قد يكون جلادًا في حكاية جماعة أخرى، فقد يكون ارتكب مجازر بحقّها. لكنّ مجموعة «البطل» لا ترى مجازر، فكلّ حكايتها مرويّة لتظهر أنّ الدفاع عن الجماعة كان ضدّ «وحوش» يريدون إبادة الجماعة ولا نعرف «لماذا يكرهونها». والحكاية تقول أنّه إن وقع ضحايا فهؤلاء كانوا «دروعًا بشريّة» أو «أضرارًا جانبيّة» لا بدّ منها. كيف إذن نحكم على الحكايا المتقابلة. أيّة حكاية هي الصحيحة بين الشعوب وبين الجماعات؟ هناك حكاية واحدة أعرفها تحكم بين حكايا الشعوب، حكاية يسوع المعلّق بين السماء والأرض والمبغوض بلا سبب. حكاية الضحيّة البريئة المنبوذة هي الحكايةُ الحاكمة. وعيون يسوع في عيون الضحايا البريئة هي التي تحكم اليوم وفي اليوم الأخير فيما كانت فيه تختلف الحكايا. لا يوجد مِنْخَلٌ آخر للروح يصفّيها من عتمات حكايا الجماعات وأوهامها وبطشها الناعم، إلاّ صمت الضحيّة البريئة، ووجهها الشاهد لدمها المخفيّ بين سطور الحكايا ويصرخ خلف حروفها. خريستو المرّ Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |