كيف يمكن لبشر نُهبوا من قبل نظام سياسيّ أشرف على بنائه – ويشرف على استمراره – مجموعة من السياسيّين والمصرفيّين، ألاّ يروا أنّ السياسيّ الذي يدعموه مسؤول إمّا لأنّه نهب، أو لأنّه لم يفعل شيئا لإيقاف النهب بينما هو «زعيم» سياسيّ يُموضع نفسه كزعيم للبلاد وليس لمجموعة قبليّة فيها؟
لدينا كبشر هذه القدرة الخارقة على إيجاد الحجج تلو الحجج لدعم موقفنا المسبق من الأمور. من خصائص حياة الإنسان أن يتحرّك المنطقُ انطلاقًا من دوافع مسبقة ليعمل على تبريرها. يرى باحثون في علم نفس الاجتماع أنّ هناك دوافع ومواقف تكون موجودة مسبقًا لدى الشخص، ثمّ يندفع المنطق ليعطيها التبريرات. من هنا نلاحظ الانشقاق الداخليّ داخلنا وفي الناس حولنا. فنرى، مثلاً، إنسانًا مؤمنًا بإله محبّة وسلام ومشاركة، ويدافع عن سياسيّ ناهب وأنظمة سياسيّة رأسماليّة متوحّشة. عندما نرى هكذا تضارب، علينا أن نعرف فورا أنّ طبقة الفكر الإيمانيّ المُعلنة (محبّة، مشاركة) ليس سوى طلاء لتغطية إيمان حقيقيّ يُمارس يعبّر عن مجموعة من الأفكار الأخرى، هو اجمالاً إيمان بالنظام القائم، اجتماعيًّا كان النظام أم اقتصاديّا. هذا الإيمان الحقيقي يقوم على الظنّ بأنّ النظام القائم هو الأفضل من أجل الذات، أي أنّه يقوم على ركيزة أنّ النظام مفيد (حتّى ولو كانت الفائدة واهمة). ولكنّه أيضًا يقوم – وهنا برأيي السبب الأعمق– على أنّ هذا الإيمان بالنظام القائم يؤمّن شعورا بالانتماء إلى جماعة، وهذا الانتماء يعطي الإنسان أمانًا ولو زائفًا (وهو زائف في ظلّ الانهيار الحالي)، وهويّة، والإنسان مستعدّ لكلّ شيء حتّى للعبوديّة مقابل الشعور بانتمائه إلى جماعة، والشعور بالهويّة الذاتيّة (ولو كانت هويّة لا أخلاقيّة ومدمّرة). من هنا، من الموقف الشعوريّ المسبق للأفكار، تأتي كلّ الإنكارات: لا، النظام الرأسماليّ ليس متوحّش. لا، هناك فقط بضعة لصوص. لا، المصرفيّون أخطأوا ولكن المصارف لم تنهب. لا، المصرفيّون نهبوا ولكن لا ضرورة لتغيير النظام. لا «منعوا زعيمي من العمل». لا، لم يكن ممكنا «إعمار لبنان» دون نهب وسط بيروت. لا، زعيمي استقال. لا زعيمي عليه أن يلعب اللعبة، ولكنّه غير راضٍ عنها. لا، زعيمي ليس مثلهم. ومن هذا الموقف الشعوريّ المسبق تأتي كلّ التبريرات، نعم زعيمي نقيّ ولكنّه مضطرٌ أن يترك الفاسدين يسرحون ويمرحون ليركّز على القضيّة الأكبر. نعم زعيمي دفع رُشى وكان مضطرا لرشوة السياسيين والمصرفيين والعاملين في المؤسّسات العامة والنوّاب والوزراء والإعلاميّين لكي يتركوه يبني البلاد. نعم زعيمي استولى على وسط بيروت ولكن لأنّ قلبه على البلاد وهذه الطريقة الوحيدة لإعمارها. نعم زعيمي اغتال وقتل وارتكب المذابح وهجّر ولكنّه كان مضطرا على ذلك دفاعا عن «الوجود»، ثمّ غيره فعل ذلك أيضًا! نعم صحيح أنا أؤمن بالمحبة والمشاركة ولكن المسيح «طوباوي يعني». ولكن، لا أحد يمكنه أن يقبل ولو بينه وبين نفسه أن تكون مواقفه غير أخلاقيّة أو إنسانيّة. ومن هنا يحتاج الإنسان للانكار والتبرير الأخلاقيّ (أنا متأكّدٌ أنّنا أن سألنا ناهِبًا لوعظنا بأخلاقيّات فعلته وقانونيّتها). والانكار والتبرير سهلان جدّا عندما يتمكّن الإنسان من اللجوء إلى مجموعة تفكّر مثله، إذ عندها تخفّ حاجته للحجّة والمنطق المتماسِك المقنع، لأنّ في المجموعة المتجانسة الكلّ يفكّر بنفس الطريقة. بالديانة الداخليّة المخالفة للديانة اللفظيّة، وبالمنطق المندفع لتبريرها، وبالانغماس في مجموعة متجانسة مدفوعا من رغبة ملحّة بهويّة ما (ولو كيفما اتّفق)، يمكن للإنسان أن يكون فاسدًا، أو مشاركا في الفساد بتبريره، وهو في كامل لياقته الأخلاقيّة لفظيًّا، لأنّه لم يُرد أن يرى أو لم يرَ المسافة بين الأقوال والأفعال، ولم يحمِ حرّيته من ضغط المجموعة التي ينتمي إليها، «فبقي في العبودية مخافة الموت»، الموت عن السهولة، والموت عن حضن الجماعة، للجوء إلى حضن الحقّ والتمسّك بالحاجة الأساس إلى واحدٍ يفتحُ أفق المشاركة والفرح في البنى الاجتماعيّة عبر هذا الموت. خريستو المرّ Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |