هناك أنواع من العنف. ليست كلّ أنواع العنف منبوذة ومرفوضة وغير أخلاقيّة. يسوع داخلاً إلى الهيكل وقالبًا طاولات الصيارفة مارس شيئا من العنف.
كان الهيكل لا شكّ جميلاً. بعض المناطق في الهيكل كانت مُحَدَّدة بحيث يُمنع الناس من الطبقات «الدنيا» من الوصول قريباً من المعبد. في الوسط كان هناك ساحة مُخَصَّصة للكهنة، ثمّ تلك المخصّصة للرجال، ثمّ للنساء، وأخيراً في الأطراف ساحة للوثنيّين أولئك «الغرباء». في لبنان والدول العربيّة (ولنترك البلاد الأخرى جانبا) الله ليس سوى المعبود اللفظيّ معظم الأحيان، وهو لأهل السلطة والمال المعطفَ الذي يخفون خلفه ضحايا جرائمهم. في الواقع، يحلّ «بَعْل» المال والسلطة مكان الله في المجتمعات. هيكل «بَعْل» في الوسط، وحوله طبقات «عليا» تعبد بَعْل، وهي ككلّ العبادات المصلحيّة تسعى للسطو على «قواه السحريّة». وبعدها تأتي الطبقات «الدنيا». حول الوسط حيث رموز بَعْل، هناك ساحة لكهنة الهيكل، ثمّ حلقات من الرجال (هؤلاء جلّهم اختصاصيّين مرتزقة)، ثمّ النساء، «أكسسوار» هذا المجتمع الذكوريّ، ثمّ الأجانب، «الخدم» الأقلّ قيمة، في الهيكل غير الشريف هذا. كان الباعة الذين يتكلّم عنهم الإنجيل موجودين في الساحات الخارجيّة: باعة حيوانات أو حبوب مخصّصة للأضاحي؛ وكان هناك خاصّة صرّافون لأنّ العملة اليهوديّة وحدها كانت مقبولة في الهيكل، فالعملة الرومانيّة المستعملة في معظم العمليّات التجاريّة اليوميّة في البلاد كانت تُعتَبَر نجسة. هناك عملتان إذن. الناس مجبورة أن تستعمل في الهيكل عملة دينيّة واحدة، يحدّد سعر صرفها «صرّافو الهيكل»: مصارف تلك الأيّام. هم يشبهون «صرّافو بَعلْ» المال والسلطة في لبنان، الذين يحدّدون سعرين لصرف عملة الإمبرطورية (الدولار) وعملة «الهيكل» بالطريقة التي تناسب عباداتهم الحقيقيّة، أي أرباحهم الماليّة والسلطويّة. لم يرضَ يسوع هذا النفاق وهذا الاستغلال. ولم يرضَ أيضا أنّ «الهيكل» غدا مكان غربة بينما كان من المفترض أن يكون مكان حضور إلهيّ يجمع أبناء وبنات الله إلى واحد، يجمع «عيال الله» في عائلة واحدة تهتمّ ببعضها البعض، بحاجات العائلة، ولا فضل فيها لأحد على أحد إلاّ بالتقوى، أي إلاّ بمقدار خدمته للآخرين. لكنّ عبّاد بَعْل المال والسلطة حوّلوا البيت العائليّ إلى مغارة لصوص: «بَيتي بَيتَ صلاةٍ يُدعَى لجميعِ الأُمَمِ. وأنتُم جَعَلتُموهُ مغارَةَ لُصوصٍ". صرخ يسوع. الوطن هو كيانٌ يعامَل الناسُ فيه كعائلة، بتساوٍ وعدالةٍ وتوزيعٍ للحقوق والواجبات بحيث يكون الجميع أحياء وفرحين. لكنّ عبّاد بَعْل جعلوه مكانا لإبليس، مكانا للظلم والجريمة والنهب والسلب والقتل ورمي الناس في اليأس والجوع والمرض والجهل والكراهية لثلاثين من الأعوام، والبارحة في ٢٠ كانون ثاني ٢٠٢٠ جعلوه مكانًا لإطفاء العيون وخنق الناس في الشوارع. هذا النفاق هو ما شجبه يسوع وهذا النفاق هو عينه ما شجبه المتظاهرون في شوارعهم. ليس كلّ عنف مشجوب. غضب الشارع لم يقتل ولم يفقأ عيون ولم يكسر سوى واجهات مصارف تخالف كلّ القوانين وتسحل حياة المواطنات والمواطنين سحلاً بشكل يوميّ وتفقأ قلوبهم. هذه الغضب مفهوم، وهو إنّما يدلّ على أنّ الناس لم تعد خانعة، وأنّها تحاول أخذ زمام أمورها وأمور بلادها بيدها. العنف المشجوب هو نوعين: العنف المؤسَّسيّ البنيويّ، السابق لأيّ عنف لفظيّ أو مادّي حدث بعد الانتفاضة الشعبيّة. وهو عنف موجود ومنتشر ويقتل يوميّاً، ولا يثير غضب الغاضبين من عنف المتظاهرين، لا رؤساء حكومات (ما عدا سليم الحصّ)، ولا وزراء داخليّة، ولا رؤساء جمهوريّة، ولا رؤساء مجلس نوّاب، لأنّ هذا العنف هو عنفهم بالذات. هذا العنف هو عنفهم اليوميّ ولكنّه عنف «كلاس»: يقتل ولكنّه يدع الناس تذهب إلى أعمالها «بسلام»، يسحل ولكنّه لا يقطع الطرقات، ينهب ولكنّه يُبقي على الفتات وبضعة كيلومترات من نفايات التعليم الأخلاقيّ ليرتاح بها ضمير الناس بسلام. هذا العنف المؤسّسيَ البنيويّ هو العنف السابق لكلّ عنف ظاهر باد للعيان اليوم. وهو المسؤول الأوّل والأخير عن عنف رمزيّ قام به متظاهرون. العنف الآخر المشجوب هو عنف الشرطة والجيش. في الأوطان ما من أمر مقدّس إلاّ الشعب والأرض. إن مسّ بهما أحد كان خائنا أو عدوّا، ومن يمسّ بالشعب أكان في القوى الأمنية أم لا، هو خائن للشعب ولا يقوم بواجباته. واجب القوى الأمنية هو أساسا حماية الشعب. القوى الأمنيّة لديها واجب أخلاقيّ تجاه الشعب وليس تجاه من استلم زمام السلطة في حقبة من تاريخ الشعب. هل تحدث محاكمات في لبنان لمن مارس العنف غير المبرّر ضدّ المتظاهرين؟ ليس من أسباب تدعو للتفاؤل، ولكن تجدر محاولة محاكمة المسؤولات والمسؤولين. هناك عنف آخر نختلف فيه هو العنف الثوريّ. هل هو الحلّ اليوم؟ لا يبدو ذلك في الأوضاع الحاليّة، العنف في لبنان أوصلنا إلى حروب أهليّة مدمّرة، وإلى.... سلطة النهب الحاليّة. تجنّب هذا المنزلق واجب، هو في جميع الأحوال غير مفيد وغير واقعيّ لأنّه لا يوصل إلى هدف العدالة. في الظاهر نحن أمام خيارات وطنيّة، أمّا عند من لامس وجه يسوع يوماً بقلبه، وأكاد أقول بيديه، من أحبّ الله، من أحبّ الإنسان، فهو أيضا أمام خيار إيمانيّ، أن يظلّ عبدا لبَعْل وكهنته أو أن يلفظ بَعْل وسلطته ويعمل في نضال لاعنفيّ، بشكل جماعيّ، وبرجاء المؤمن وصلابة عزيمته، على قلب سلطة بعل وطرد صيارفة الهيكل وكهنته لإرساء عدالة على هذه الأرض. خريستو المرّ
0 Comments
Leave a Reply. |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
November 2022
Categories |