خريستو المرّ
الاثنين ١٩ كانون أوّل / ديسمبر ٢٠٢٢ إلى فالنتينا وهو العامل في صقل الحجارة كان يتلمّس جبال لبنان النائم وجهُها في حائط البيت القرويّ مساء ذاك الجمعة في المنصوريّة. اتّكأ على الحائط، أشعل لفّافة التبغ، ووقف يتأمّل الناس وسيّارات نادرة تمرّ في الطريق المقابل. ماذا كان يفكّر تماما مساء ١٩ كانون أوّل ١٩٧٥؟ لا أحد يعلم تمامًا. لربّما كان يتفكّر في هموم العائلة، أو في واجبٍ، أو ألم؟ لربّما كان يفكّر بعودة ابنته الصغرى من المدرسة سعيدةً ببداية عطلة الميلاد ثمّ ركضها من بين يديه إلى بيت عمّها متأبّطة لوح أردواز صغير وطبشورتين. ربّما، لكن على الأرجح كان يتفكّر في تلك "النصائح" التي جاءته بطرد عمّاله الفلسطينيّين من سكّان تلّ الزعتر؟ "لا نريد غرباء في مناطقنا". لكنّه قرّر أنّه لا يستطيع أن يكون إلّا ذاته. لا بدّ أنّه سمع أنّ الناصريّ كان نجّارًا، ولا بدّ أنّ القلب إذا لم يتحوّل حجرًا يرى ملامح الناصريّ خلف وجه سكّان الهامش في كلّ جيل. لم ينصَعْ للتهديد... "ويسمّون أنفسهم مسيحيّين! لو كان المسيح هنا لطردهم من الكنائس". هل ندم أنّ أهله عادوا به من تشيلي إلى المنصوريّة بعد هجرة طويلة؟ عندما عادوا كانت طرقات المنصوريّة الترابيّة غير متناسبة مع أحذية أختيه النسائيّة. "عدنا في التاريخ إلى الوراء مع عودتنا إلى لبنان". لكن لا يبدو عليه الندم، فصديقه لبيب كان يعدّ العدّة للهجرة إلى كندا ونصحه مراراً بالهجرة وهو رفض. وها أنيس واقف يتأمّل نتف التبغ تشتعل ولكأنّه يتمنّى أن تحترق معها همومه. وبين نفخة وأخرى، مزّقت طلقات رصاصٍ جلباب سكينة المكان. وقع أنيس وهو يقبض على الدفء السائل من أحشائه بينما يقبض الخوف البارد على جسمه. ركضٌ وصراخ ملآ المكان. الناس يتفرّقون كالعصافير. الرصاص استمرّ في أنحاء المنصوريّة ذلك اليوم. بعد دقائق وصل أخوه واستطاع سحبه إلى سيّارة قريبة ليتلوّى أنيس مع الطريق الصاعدة إلى المستشفى. قال أخوه لاحقًا أنّ المستشفى الحكوميّ في بحنّس، رفضت استقباله "لا نستطيع". خوفهم كان يقول أنّهم تحت تهديد فأنيس كان شيوعيًّا. . "الأولاد"، قال أنيس لأخيه. والأولاد سمعوا بسقوط أبيهم ولم يروه. كان الرصاص ما يزال ينهمر على منزل آخر. أولئك كانوا قوميّين؛ في ذلك الزمن لم يعد البشر بشرًا في عيون بعض، باتوا عناوين خرافيّة في أذهان غارقة في مستنقعات حقد. كان ذلك في زمن يشبه زمننا كثيرًا. قتل المُغتالون شابًّا وخطفوا أخيه، لا تزال آثار قدمي الأخ تودي إلى لا مكان، لا يعرف أحد إلى اليوم أين تنام عظامه، ولكنّ ناس ذاك الزمن المنصوريّ يذهبون إلى الكنائس براحة ضمير مذهلة. تقلّصت المسيحيّة ذلك اليوم في المنصوريّة؛ بعضهم يقول أنّه لمحها تعود إلى جرن المعموديّة وتختبئ عارًا، ويٌحكى عن تمثالٍ من ذهب وبارود قرّر بعض مَن تسمّوا باسم يسوع أن يقيموه في وسط أيّامهم ويشربوا كأسه، وقرّروا أنّ الآخر «غريب» وأنّ مَن مشى مع الغرباء يجب أن يُقتَل، تناسوا أنّ المسيح هو الغريب الأكبر وقرّروا أن يصلبوا باسم مَن صُلِبَ ولم يَصلب. ما تزال ملامح التمثال ماثلة للعيون الرائية. كان دم أنيس يسيل ويختلط في السماء بدم كلّ غريب عُلِّقَ على حقد، من يسوع إلى نهاية العالم. رفضوا استقبال أنيس، فعادت السيّارة من المستشفى إلى اللامكان. هناك خارج المكان، في الصمت المطبق على المساحة بين الأخوين، في الزمن المعلّق بين اللاتصديق والموت المتسرّب في البرودة، توقّف قلب أنيس وعلى شفتيه كلمة تتدلّى. توقّفت الطفلةُ عن لعب دور المعلّمة مع رفيقاتها، وقَفَت، وقع لوح الأردواز من يدها، عندما سمعت الرصاص ينهمر ذاك المساء. وقع اللوح ووقعت عن الحروف نقاطها. تلعثمت الحياة وصمتت الطفولة في حزن وخوف. لعلّها صارت معلّمة لاحقًا لكي تضع النقاط على حروف المعنى في بلادٍ طَعَنتِ المعاني باسم الله. لعلّ الله اختار أن يكتب بها سطور معنى بحبر اللامعنى الذي يصنعه البشر عندما يقتلون الأبرياء. ركضت إلى المنزل. الجميع صامتون متجهّمون قلقون. قضوا الليلة والرصاص ينهمر حول المكان. في اليوم التالي خرج وليم الأخ الأكبر وبعد وقت استطال عاد، جلس، وأجهش بالبكاء. فهمتْ هي، وتوقّف كلّ شيء. دوارٌ. لا شيء آخر. أُتي بالمطران خضر على عجل. لم يُسمح لعائلة بوداع الزوج والأب، تمّت مراسم الدفن على عجل. ذلك اليوم، قتل الرعاع أنيسًا، "صديقًا حسن الألفة" كما يعني اسمه؛ قتلوا إنسانًا مُحبًّا ودفنوه في المساء على عجل، تمامًا كما دُفِنَ المسيح يومًا. فالناس يقتلون على عجل، ويدفنون على عجل، لئلّا تفوتهم مواعيد الصلاة. عاد أخُ أنيس وعينيه بحرٌ، قال أنّه رأى كلمة تتدلّى من فم أخيه وبقيت معلّقة على شفتيه، قال أنّه لم يستطع فكّ حروفها. الرصاص تتابع حول المنزل ليومين. الرحيل أفضل من الموت، ربّما. وكما هجّر الشرّ يسوع وعائلته تهجّرت عائلة أنيس. عبرت صحارى عديدة في رحيل بدا بلا نهاية. تقول رؤيةٌ في أحشاء كلّ إنسان أنّ مَن عاش من القتلة عاش حيّا ميتًا، لا هو يموت تمامًا ولا هو يعيش تمامًا، عاش جحيمًا متواصلًا من تفسّخ الذات. لا يفهم كلّ الناس أنّ المحبّة هي الحياة وأنّ قاتل الأبرياء يقتل نفسه أوّلًا. كانت كلمة أنيس المتدلّية لغزًا لم يفهمه أحد. ابنته الصغرى تقول أنّها رأت والدها في الحلم، أعطاها اللوح وعليه كلمة: كتاب. قالت أيضا أنّها رأته يوما آخر وقبّلها وعلى فمه رسمُ فراشة. أو هي ربّما لم تقل، ولكنّ ربّما رآها الحلمُ في حلمِه تحلمُ وتقول، وأمّا الشاهد فيقول أنّه رأى معلّمة تضع النقاط على حروف هائمةٍ فصارت معنى، ووزّعت خبزَ الحياة صباحًا دافِئًا متدفّقًا ممّن هو ألف الحبّ وياؤه، ليصير يوم الضائعين أنيسًا. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |