خريستو المرّ
الثلاثاء ١٣ كانون أوّل / ديسمبر ٢٠٢٢ لم يكن الله بعدُ شيئًا كثيرًا سوى إسقاط أبويّ زاجر وعين مراقبة، وكان الشابُ فيّ يفتح له نفقًا من ظلمة الهامش، المعروفة للغرباء، إلى حدائق شمسٍ يحملها الهواء. لم يكن الله متنفّسه الأوّل، فكيف لله أن يعبر مباشرة دون وجهٍ إنسانيّ وما من أحد جزيرة. متنفّسه الأوّل كان شلّة غامرت في الأسئلة دون تردّد، رافقها أكثر من وجهٍ فتح باب الأسئلة وحاول أن يرشد قلق الشباب إلى آفاق. الشلّة كانت صداقات، أكثر وأقلّ عمقًا، لكنّها كانت حياةً لأنّها لم تعرف الغشّ، إذ كان الواحد يقول ما يمكن أن يبني ويُخفي في قلبه ظلال العتمة التي تلاحظها عيناه حول وجه الآخر، وما من وجه يخلو منها. هكذا، كانت تربة الصداقة مجالًا كي يتفتّح فيها شبيبة ممتدّة خارج النفق نحو حدائق الشمس. والشمس كانت تداعب قلوبهم الطريّة بالصدق، والمتلوّنة بالمحبّة وظلالها. كانت روح النكتة غالبة لآثار الحرب، ربّما كانت روح النكتة التفاتةً من ذاك الغالبِ تجلّت، فلولاها لم يكن لقارب اليوميّات في بحر الدماء تحت اختناق السماء أن يُبحر أبعد تحت نجمِ الأمل. لم يكن كوستي بندلي بعدُ وجهًا خارج الكتب، كنّا نتناقل كتبه في القارب، فتخرج منها شموسٌ وعصافير وريحٌ من عالم آخر. كانت كلماته شموسًا تشير إلى وجهٍ خبيء في باطن كتاب عتيق، وفي فكرٍ تحرّر من الجمود. كان كوستي يقدّم لقارئه ويدعوه إلى احتفال الحرّية، الباقي كان شأن كلّ إنسان مزروع وسط تربة الجماعة-الصداقة. حين رأيته مرّة أولى خارج الكتاب تجاوزت الرهبة بلطفه المنسحب حتّى لا يفرض نفسه. كان الشيء المهمّ هو ما نقوله في اجتماع أو آخر، كيف يصل «الكلمة» الذي دوّن شهودٌ وجهه في كتاب: هل يمكن للكتب أن تحمل الوجوه؟ حياتي تقول «نعم». في أحاديثنا الكثيرة وأسئلتي التي لم تنته، وأجوبته التي كانت تدلّ ولا تفرض، قرأت الإنجيل تحت ضوء شهادة كوستي فوجدت الإله ليس مجرّد ألوهةٍ، قوّة، شيءٍ، وإنّما وجهٌ. كانت تلك خطوة أولى لي خارج وثنيّتي. ما أزال أذكر الخطوة إلى اليوم. الله شخص وليس قوّة. عندما تابعتُ أثار كلمات الله مع كوستي وجدته شخصًا مجنون حبًّا: في بدء الزمان خلق الله العالم، لكنّه ما جلس عاليًا في عليائه ولا تحكّم في الخليقة، بل منحها نواميسها كي تكون متمايزة عنه وحرّة بكلّ القدر الذي يمكن لخليقة أن تكون حرّة من خالقها؛ وفي جنائن الكون رعى نشوء هذا الكائن الذي وعى ونما حتّى صار ذا إرادة حرّة بقدر ما يمكن لمخلوق أن يكون حرّا من مخلوقيّته، ولهذا صار قادرًا أن يقول "لا" لحبّ الله أو أن يقول "نعم"، ولا قيمة لـ"نعم" ما لم يكن قائلها قادرًا أن يقول "لا". لأنّه حبّ كلّه، دخل الله مغامرةَ حبٍّ بالخلق، فجعل نفسه بحاجة للإنسان، ولكأنّه تحت رحمة الإنسان الذي يمكن أن يبادل حبّ الله البادئ بحبّ، أن يرفض أن يحبّ. أراد الله أن يكون الكون مكانًا للمحبّة والمشاركة، وربط الله مصير مغامرته بإرادة الإنسان. وإذ أراد أن يوضح الله حبّه للإنسان مرّة وإلى الأبد، وأن يسكن قلب الإنسان ويؤازره من الداخل، وأن يشاركه كلّ أوضاعه، وأن يصبح قادرا على أن يشاركه حتّى الموت، تجاوز اللهُ علياءه، تجاوز تجاوزَه للخليقة وصار منها بتجسّد كلمته يسوع. وأوضح يسوع بكلماته وتصرّفاته أنّ الله حبّ وأنّ حبّ الله يقاوم كلّ موت وكلّ تهميش وكلّ جبروت وكلّ سلطة تستخدم الإنسان عوض أن تخدمه. ثمّ أوضح مرّة وإلى الأبد على ذاك الصليب المرميّ خارج أسوار القوّة، مع الغرباء والمهمّشين، أنّ وجهه هو وجه الحبّ، وأنّ ذاك لا يكون إلّا مصلوبا وليس صالبا، وأنّ مصير الحبّ المصلوب قيامة منتصرة وهزيمة لأشكال الموت. أوضح أنّ الله بيسوع يريد أن يشارك الإنسان موته لكي يشاركه الإنسانُ ألوهته. لهذا كان الملكوت ملكوت حبّ، وكانت الجحيم أمرًا يفرضه الإنسان على نفسه إن قطع نفسه عن شركة الحبّ، عن احتفال الحبّ الذي لا يقدّم الله شيئًا سواه لكلّ إنسان. ولهذا كان الملكوت يبدأ هنا والجحيم يبدأ هنا، مهما كان بريق خداع الذات وخداع الآخرين مبهرًا. ولهذا كان حبّ الله يعمل بطريقتين مختلفتين: سعادة لمن يحبّ وجحيما لمن يغلق نفسه عن الحبّ، الحبّ المشارِك للقلب، وللوقت، وللجهد، وللخيرات. نزل الإله من عليائه وصار إنسانًا لأنّ جنون حبّه فاق كلّ خيال ومنطق. لأجلي بات الله جنونًا لفكرة الإله المتعالي. حين قرأتُ كلماتَه رأيتُ وجهَه، وحين رأيت وجهَه رأيتُ وجهي في أفضل ما هو عليه، ووجدت قلبي مدعوّا ليمشي فوق مياه الموت المتلاطمة حولي، ورأيت فكري ونفسي وجسمي مدعوّين لمسيرة عبر بستان خوفي للصعود على خشبة الحبّ، لأراني كلّي منذ الآن قائمًا من الموت. هكذا قال كوستي بندلي لي في جميع حياته وكتبه وكلماته وصمته ومراجعته الدؤوبة لذاته لكي يقدّم ما يمكن أن يكون حياةً آتيةً من عمق الله، قال حتّى نقول عن ذاك الذي كان منذ البدء بأنّنا سمعناه، رأيناه بعيوننا، شاهدناه، ولمسته أيدينا، وعرفناه كلمة الحياة، فسعينا أن نكون أحياء الآن وهنا. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |