الثلاثاء 10 تشرين الثاني/نوفمبر 2020
خريستو المرّ "تختلف تعاليم أفلاطون عن تعاليم المسيح، ... فهي ليست متشابهة من جميع النواحي، كما لا تتشابه تعاليم الآخرين والرواقيين والشعراء والمؤرخين. فكل إنسان يتكلم بشكل جيّد بما يتناسب مع نصيبه من الكلمة الباذر (spermatikos Logos)، ورؤية ما يتعلق بها... كلّ ما قيل بشكل صحيح بين الناس، هو ملكٌ لنا نحن المسيحيّين ... لأن جميع الكُتّاب كانوا قادرين على رؤية الحقائق بشكل خافت من خلال زرع الكلمة الباذر (spermatikos logos) الذي كان موجودًا فيهم"، يوستينوس الشهيد (الدفاع الثاني، 13). كان ترتليانوس (145-220) أحد أبرز المدافعين عن المسيحيّة. طرح ترتليانوس على نفسه علاقة المسيحيّة بالثقافة الوثنيّة، فكان من أبرز رموز رفضها، إذ كان يرى بأنّ الثقافة تُفسد الإنسان وتدفعه للخطيئة، فدعا المسيحيّين إلى عدم التعاطي في السياسة، وعدم تعاطي التجارة، ورفض الفلسفة والموسيقى والمسرح، إلاّ أنّه قَبِلَ بشيءٍ من الفائدة في الأدب. وكتب بأنّنا "نريد يسوع المسيح ... ومع إيماننا لا نريد اعتقادًا آخر". في المقابل، جاء فالنتينوس (100 – 160 م.) بتطرّف آخر قائم على نظم المسيحيّة بحسب نمط فكريّ معيّن. في زمن فالنتينوس، كانت الفلسفة الأفلاطونيّة تلعب دوراً ثقافيّاً مهمّا في تفسير العالم، فحاول فالنتينوس تفسير سرّ التجسّد انطلاقا من خلال الأطر الفكريّة الفلسفيّة لعصره. فعوض سرّ التجسّد "غير المنطقيّ"، فسّر فالنتينوس التجسّد من خلال أدوات الفلسفة فإذا بابن الله يصبح فيضًا إلهيًّا ينزل على الإنسان يسوع عند معموديّته ويتركه عند الصلب، مفرغا هكذا المسيحيّة من مضمونها. حاول فالنتينوس استيعاب سرّ التجسّد ومحبّة الله وصليب يسوع المسيح بأدوات منطق فلسفيّ محدّد؛ بحيث يصير الله مُشَرَّحاً بالمنطق، ولا يعود الصليب "جنوناً" عند الوثنيين بل يصبح خاضعًا لضرورات فلسفيّة. رفضت الكنيسة فكر فالنتينوس وكلّ محاولة لاحقة لاستيعاب الله وتشريحه. مقابل هذين التطرّفين دخل الفيلسوف الشهيد يوستينوس (100 - 165) في حوار مع الوثنيّة والفلسفة، مدافعا عن الإيمان الجديد في مقابل الوثنيّة ورفضها لما رأوه خرافات عند المسيحيّين (سرّ الشكر مثلاً)، فبقي ملتزما بإيمانه دون رفض الأدوات الفلسفيّة بل كان يعتبر أنّ الفلسفة الوثنيّة أعدّت الطريق للمسيحيّة وأنّ فلاسفة مثل أفلاطون وارسطو وغيرهما هم شهود للحقيقة الإلهيّة التي تعمل حتّى في الوثنيّة. وهذا القدّيس الشهيد كان مع ذلك لديه بعض الهنّات، فكان مثلا يعتقد بأنّ الخلق لم يحدث من عدم ولكن من مادة موجودة، كما كانت تعتقد الفلسفة الوثنيّة. إن ّتحويل المسيحيّة إلى مُعطى عقليّ بحت كما فعل فالنتينوس مرفوض طبعًا؛ وإن عدنا إلى العقائد المسيحيّة اليوم فإنّنا نجد أنّ موقف يوستينوس من "علوم عصره" (الفلسفة) كان الموقف الأسلم؛ ذلك أنّ كلّ موقفٍ ترتيليانوسيّ يرفض أو يهمّش المعطيات غير الإيمانيّة، ويختصر كلّ خليقة الله بالعقائد والتقليد الكنسيّ، هو موقف مخالف للإيمان لأنّه يرفض أو يهمّش حضور القوى الإلهيّة غير المخلوقة في الخليقة. فبحسب الإيمان، لم يكن للخلقية أن توجد (وأن تستمرّ في الوجود كلّ لحظة) لولا قوى الله غير المخلوقة الحاضرة فيها. الله هو الذي أعطى الخليقة "مَنْطِقاً" في داخلها عندما خلقها ("الكون كلّه رياضيّات"، مثلاً). إنّ القوى الإلهيّة غير المخلوقة هي عماد وجود العالم، عماد وجود الكون المخلوق، ولا يوجد أيّ ظاهرة من ظواهر الكون المخلوق يمكن أن ننظر إليها وكأنّها منفصلة عن تلك القوى الإلهيّة، أكانت الظواهر جسديّة أو نفسيّة أو حيوانيّة أو نباتيّة أو كونيّة. بحسب الإيمان الأرثوذكسيّ، كلّ الخليقة المادّية تحمل حضور القوى الإلهيّة التي تمنحها وجودها، تمنحها "جوهرها" كمخلوقات، أي تمنحها مادّيتها بالذات. إنّ عقيدة الخلق من العدم وحضور القوى الإلهيّة غير المخلوقة في العالم، يُفضِيان لا محالة إلى أخذ كلّ الطبيعة والعقل والعلوم على محمل الجدّ، والنظر إليها كلّها كواحات لقاء بديعة ورائعة بالفكر الإلهيّ الخالق والحاضن للكون، والجاذب الكون إليه. إنّ استكشاف كلمات الله وقصائده، المنثورة في كلّ شيء، أمر رائع. الله حاضرٌ ومتوارٍ في خليقته، ويمكن للإنسان أن يرى أنّ حقائق الكون "زجاجات" فكريّة وجماليّة حمّلها الله رسائل حبٍّ لنا رماها في بحر هذا الوجود. فكيف يستطيع الإنسان ألاّ يُبحر، وألاّ يفتّش، وألاّ يفتح الزجاجات، وألاّ يقرأ بكلّ كيانه، وألاّ يُدمع، وألاّ يفرح؟ الثلاثاء 10 تشرين الثاني/نوفمبر 2020 خريستو المرّ "تختلف تعاليم أفلاطون عن تعاليم المسيح، ... فهي ليست متشابهة من جميع النواحي، كما لا تتشابه تعاليم الآخرين والرواقيين والشعراء والمؤرخين. فكل إنسان يتكلم بشكل جيّد بما يتناسب مع نصيبه من الكلمة الباذر (spermatikos Logos)، ورؤية ما يتعلق بها... كلّ ما قيل بشكل صحيح بين الناس، هو ملكٌ لنا نحن المسيحيّين ... لأن جميع الكُتّاب كانوا قادرين على رؤية الحقائق بشكل خافت من خلال زرع الكلمة الباذر (spermatikos logos) الذي كان موجودًا فيهم"، يوستينوس الشهيد (الدفاع الثاني، 13). كان ترتليانوس (145-220) أحد أبرز المدافعين عن المسيحيّة. طرح ترتليانوس على نفسه علاقة المسيحيّة بالثقافة الوثنيّة، فكان من أبرز رموز رفضها، إذ كان يرى بأنّ الثقافة تُفسد الإنسان وتدفعه للخطيئة، فدعا المسيحيّين إلى عدم التعاطي في السياسة، وعدم تعاطي التجارة، ورفض الفلسفة والموسيقى والمسرح، إلاّ أنّه قَبِلَ بشيءٍ من الفائدة في الأدب. وكتب بأنّنا "نريد يسوع المسيح ... ومع إيماننا لا نريد اعتقادًا آخر". في المقابل، جاء فالنتينوس (100 – 160 م.) بتطرّف آخر قائم على نظم المسيحيّة بحسب نمط فكريّ معيّن. في زمن فالنتينوس، كانت الفلسفة الأفلاطونيّة تلعب دوراً ثقافيّاً مهمّا في تفسير العالم، فحاول فالنتينوس تفسير سرّ التجسّد انطلاقا من خلال الأطر الفكريّة الفلسفيّة لعصره. فعوض سرّ التجسّد "غير المنطقيّ"، فسّر فالنتينوس التجسّد من خلال أدوات الفلسفة فإذا بابن الله يصبح فيضًا إلهيًّا ينزل على الإنسان يسوع عند معموديّته ويتركه عند الصلب، مفرغا هكذا المسيحيّة من مضمونها. حاول فالنتينوس استيعاب سرّ التجسّد ومحبّة الله وصليب يسوع المسيح بأدوات منطق فلسفيّ محدّد؛ بحيث يصير الله مُشَرَّحاً بالمنطق، ولا يعود الصليب "جنوناً" عند الوثنيين بل يصبح خاضعًا لضرورات فلسفيّة. رفضت الكنيسة فكر فالنتينوس وكلّ محاولة لاحقة لاستيعاب الله وتشريحه. مقابل هذين التطرّفين دخل الفيلسوف الشهيد يوستينوس (100 - 165) في حوار مع الوثنيّة والفلسفة، مدافعا عن الإيمان الجديد في مقابل الوثنيّة ورفضها لما رأوه خرافات عند المسيحيّين (سرّ الشكر مثلاً)، فبقي ملتزما بإيمانه دون رفض الأدوات الفلسفيّة بل كان يعتبر أنّ الفلسفة الوثنيّة أعدّت الطريق للمسيحيّة وأنّ فلاسفة مثل أفلاطون وارسطو وغيرهما هم شهود للحقيقة الإلهيّة التي تعمل حتّى في الوثنيّة. وهذا القدّيس الشهيد كان مع ذلك لديه بعض الهنّات، فكان مثلا يعتقد بأنّ الخلق لم يحدث من عدم ولكن من مادة موجودة، كما كانت تعتقد الفلسفة الوثنيّة. إن ّتحويل المسيحيّة إلى مُعطى عقليّ بحت كما فعل فالنتينوس مرفوض طبعًا؛ وإن عدنا إلى العقائد المسيحيّة اليوم فإنّنا نجد أنّ موقف يوستينوس من "علوم عصره" (الفلسفة) كان الموقف الأسلم؛ ذلك أنّ كلّ موقفٍ ترتيليانوسيّ يرفض أو يهمّش المعطيات غير الإيمانيّة، ويختصر كلّ خليقة الله بالعقائد والتقليد الكنسيّ، هو موقف مخالف للإيمان لأنّه يرفض أو يهمّش حضور القوى الإلهيّة غير المخلوقة في الخليقة. فبحسب الإيمان، لم يكن للخلقية أن توجد (وأن تستمرّ في الوجود كلّ لحظة) لولا قوى الله غير المخلوقة الحاضرة فيها. الله هو الذي أعطى الخليقة "مَنْطِقاً" في داخلها عندما خلقها ("الكون كلّه رياضيّات"، مثلاً). إنّ القوى الإلهيّة غير المخلوقة هي عماد وجود العالم، عماد وجود الكون المخلوق، ولا يوجد أيّ ظاهرة من ظواهر الكون المخلوق يمكن أن ننظر إليها وكأنّها منفصلة عن تلك القوى الإلهيّة، أكانت الظواهر جسديّة أو نفسيّة أو حيوانيّة أو نباتيّة أو كونيّة. بحسب الإيمان الأرثوذكسيّ، كلّ الخليقة المادّية تحمل حضور القوى الإلهيّة التي تمنحها وجودها، تمنحها "جوهرها" كمخلوقات، أي تمنحها مادّيتها بالذات. إنّ عقيدة الخلق من العدم وحضور القوى الإلهيّة غير المخلوقة في العالم، يُفضِيان لا محالة إلى أخذ كلّ الطبيعة والعقل والعلوم على محمل الجدّ، والنظر إليها كلّها كواحات لقاء بديعة ورائعة بالفكر الإلهيّ الخالق والحاضن للكون، والجاذب الكون إليه. إنّ استكشاف كلمات الله وقصائده، المنثورة في كلّ شيء، أمر رائع. الله حاضرٌ ومتوارٍ في خليقته، ويمكن للإنسان أن يرى أنّ حقائق الكون "زجاجات" فكريّة وجماليّة حمّلها الله رسائل حبٍّ لنا رماها في بحر هذا الوجود. فكيف يستطيع الإنسان ألاّ يُبحر، وألاّ يفتّش، وألاّ يفتح الزجاجات، وألاّ يقرأ بكلّ كيانه، وألاّ يُدمع، وألاّ يفرح؟ Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |