خريستو المرّ
الثلاثاء ١٩ تشرين أوّل / أكتوبر ٢٠٢١ فلنسأل الإنجيل ولنسأل وجه مريم فرحات ودمها إن كان اغتيال قنّاص لها وهي في منزلها هو دفاعٌ عن الوجود "المسيحيّ" وما يسمّى بـ"مناطقنا". أيّ عرف ديموقراطيّ وإنسانيّ يسمح بإطلاق النار على متظاهرين مهما صرخوا من شعارات؟ ولنسأل الذين دفعوا بالتظاهرة قُدُما بأيّ ضمير يفعلون ذلك بعد تصريحاتهم الناريّة الاستعلائيّة وتاريخ طويل -يتشاركونه مع أعدائهم - من الاستقواء على القضاء، وما نشرته الصحف عن معلوماتهم المسبقة عن انتشار مسلّحين في المنطقة؟ أليس في ذلك تهوّر فاضح يستهتر بالناس وحياتهم؟ يكرّر الطائفيّون جميعًا حرصهم الكاذب على السلم الأهليّ، وأكثر ما يهدّد السلم الأهلي هو أحزابهم بالذات. لكن ما هو مريع في قلب الحروب الأهليّة المتتالية في لبنان وسوريّا هو الكيل بمكيالين، والبكاء على الضحايا حين يكونوا من صفّ الفريق الذي نؤيّده، وعدم الإحساس عند سقوط ضحايا من الفريق الخصم. فبينما عبّر مناصرو الحزبين المتظاهِرين الخميس الماضي عن الغضب والحزن لسقوط ضحايا من فريقهم، صمتوا بالأمس القريب عن هجوم أنصار الحزبين على منتفضيّ 17 تشرين ٢٠١٩ بالعصي وضربهم وأحراقهم لخيمهم في بيروت والجنوب، وإرهابهم الناس بإطلاق النار في وجه متظاهرين عُزّل بوضح النهار وفقئ عيونهم. هؤلاء المناصرون أنفسهم احتفلوا باغتيال لقمان سليم ولم يعتبروا ذلك جريمة، والرجل مهما كانت له من تصريحات كريهة هو إنسان لم يحمل سلاحًا. والعكس صحيح، فبينما كان البعض يستنكر أفعال الحزبين المتظاهِرين الخميس الماضي المشينة أثناء انتفاضة 17 تشرين، ويحزن لضحايا انفجار المرفأ ويُفرِدُ لتلك الكارثة-الجريمة مساحات واسعة في الإعلام، لم يأبهوا لسقوط ضحايا الأمس، ولا تعاطفوا مع ضحايا هجوم العدوّ الاسرائيليّ عام 2006، وبينما صرخوا مطالبين بالتحقيق الدوليّ في قضيّة المرفأ لم يصرخوا مطالبين بتحقيق دوليّ بمقتل أكثر من 1000 (ألف) مدنيّ وسقوط 4400 جريح عام 2006. أمر شبيه شاهدناه في الحرب السوريّة، حيث الضحايا لا يستحقّون التعاطف إلّا إن كانوا من «طائفتنا» أو «فريقنا». هذه المشاركة السلبيّة العاطفيّة في القتل هي التي تحمي القاتل الحقيقيّ لأنّها تعطيه البيئة الحاضنة المشجّعة لجرائمه. يتشارك الكثير من المسيحيّين والمسلمين في بلادنا هذه العقليّة الإقصائيّة التي تمهّد للجريمة، وتدافع عنها بعد وقوعها. أساس هذه الطريقة في التفكير هو حصر الإنسانيّة في «جماعتنا» وإقصاء الآخرين عن الإنسانيّة، ومن المعروف في دراسات الإبادات الجماعيّة عبر التاريخ، أنّ نزع الصفة الإنسانيّة عن الآخر خطوة يأخذها القتلة قبل شروعهم بالقتل لتبريره في أذهان القاتلين. الإعلاميّون يصبحون هم أيضًا جزء من ثقافة آلة القتل هذه حين يعملون على شيطنة الآخر ممّا يمهّد ويبرر قتله لاحقًا، ويخفّف شعور القاتلين بالذنب، ويضيف مشروعيّة لمشاريع الإبادة المختلفة التي رأينا نتائجها في الحربين اللبنانيّة والسوريّة. إنّ مشاريع الإبادة - عاجلا أم آجلا - لا يمكن إلّا أن تكون رابضة خلف المشاريع الحزبيّة الطائفيّة، فكيف إن كانت مسلّحة. لكن طريقة التفكير هذه ليست قضاءً وقدرًا ولا تولد من فراغ، بل من البيئة المحيطة، والبيئة لا تأتي من السماء، بل من بنية الدولة. إنّ بنيةً طائفيّةً للدولة لا بدّ تُبقي وتغذّي طائفيّة الناس وتدفعهم دفعًا كي يكونوا أقلّ إنسانيّة. لن نمهّد لإنسانيّتنا السبل كي تزدهر وتصبح أكثر تعاطفًا مع الآخرين المختلفين، دون أن نغيّر بنية الدولة اللبنانيّة لتصبح دولة لا طائفيّة، دولة توحّد المجتمع في تنوّعه بالتعامل مع أفراده كمواطنات ومواطنين متساوين. ما يمنع قيام هذه الدولة اليوم هو الانجراف السريع نحو الاستقطاب الطائفيّ، وتسليح المجتمع، وسياسات الدول الغربيّة التي تضعف قدرة الدولة على حماية البلاد من العدوّ الإسرائيليّ. ولكنّ المنطق يقول أنّه لا بدّ أن يفاجئنا المجتمع كما فاجأنا في انتفاضة 17 تشرين التي لم يحسب لها حسابٌ أحد. خطأ الأحزاب اللاطائفيّة الذي سيكون قاتلا لو استمرّ، أنّها لم تتوحّد حتّى الآن في مظلّة واحدة. الخوف أن تأتي انتفاضة أخرى في ظلّ ظروف ملائمة (لا شيء يبقى للأبد كما هو) ولا تتلقّفها مظلّة لا طائفيّة ذات برنامج بديل. إنّ وجود الأحزاب الطائفيّة في بلادنا هو بحدّ ذاته مشروع موت، مشروع قتل للآخر أو تهديد بقتله، مشروع أسر للآخر، مشروع تفكيك للدولة ومنع نشوء دولة حديثة تحفظ السلم، لا مشروع دولة دينيّة تفرّغ المساواة من معناها ولو قالت بها، وإنّما مشروع دولة يتساوى فيها المواطنون جميعًا بغضّ النظر عن معتقداتهم أمام القانون، بحيث لا يمرّون بالطوائف في علاقتهم مع الدولة، ومع بعضهم البعض. التجربة تقول أنّ الأحزاب الطائفيّة، جميعها دون أيّ استثناء، هي حزب الكذّاب وأبو الكذب، ذاك الذي كان قتّالًا للناس منذ القِدَم، قد تبدو ملائكةً نورانيّةً في ذهن أتباعها، ولكنّها لا تلد في النهاية إلّا الخراب والقتل، الخراب الاقتصاديّ، والتهجير القسريّ بسببه، وقتل الناس بالفقر والمرض، وسفك الدماء على الطرقات يشهد. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |