خريستو المرّ
الثلاثاء ٥ تشرين أوّل / أكتوبر ٢٠٢١ دون اهتمام بالإنسان الملموس – بحدود قدراتك – لا أهمّية لشيء. أذهلني مرارا في حياتي أشخاصًا يكتبون ويعلّمون عن العدالة، وحقوق الناس، وعندما كانوا يقفون أمام آلام شخص لم يكونوا يلقون بالًا، ولا يبدون اهتمامًا بحالته، بل يعتبرون أنّه سيتدبّر أمره. لكن الإنسان لا يمكنه أن يتدبّر أمره هكذا، كفرد معزول. لا كاتب هذه السطور ولا قارئها تدبّر أمره في هذه الحياة دون دعمِ وجهدِ غيره معه، بدءا من الأهل وصولًا إلى الذين اختارهم وأحبّهم فصارت وجوههم تنفّسه اليوميّ. من هنا، كلّ الشهادات الجامعيّة لا معنى إنسانيًّا لها مطلقًا إن لم يهتمّ صاحبها بالإنسان الملموس الذي شاءت الظروف أن تتقاطع حياته معهم دون إرادة أحيانًا لا منه ولا منهم. أعلمُ تمام العلم أنّ هذا الميل إلى الاهتمام بالإنسان الملموس لا يتطلّب جهدًا. يشعر الإنسان بوضع الآخر، يفهمه من الداخل، ويندفع تلقائيّا للتصرّف بما يراه ممكنًا من أجل حياة الآخر الملموس، ليس الآخر كفكرة وإنّما هذا الآخر الذي يقف "أمامي" "الآن" في هذا العالم. والجغرافيا هنا لا تقول شيئًا كثيرًا، فقد يكون بالفعل الإنسان واقف أمامك في هذه اللحظة وفي هذا المكان، وقد لا يكون ذلك حاصل جغرافيًّا ومع ذلك فإنّك تراه حاضرا في قلبك وفكرك، واقفًا في كيانك في اللحظة الحاضرة، فتُعمِلُ فكرك لترَ كيف يمكنك أن تساهم في فتح سبل الحياة أمامه، على الأقل بالوقوف إلى جانبه ليشعر بأنّه ليس منسيًّا من القلوب، إلى أن يخرج إلى النور من جديد. لهذا المؤسّسات لا معنى لها إن لم تصبح مكانًا للقاء إنسانيّ بين الذين يحيون فيها، ربحيّة كانت المؤسّسات أم غير ربحيّة. ولكن دينونة المؤسّسات الدينيّة وغير الربحيّة أكبر، فهذه وضعت لنفسها أهدافا كبرى يمكن اختصارها بخدمة الإنسان، فإن غاب عن تلك المؤسّسات وجه الإنسان الآخر تكون تلك المؤسّسات قد أفلست، وعت ذلك أم لم تعِ. دون وجه الإنسان، المؤسّسات ليست سوى بُنى فارغة من المعنى، مثلها مثل الزواج الذي دون حبّ يبقى إطارٍ لا معنى له، والدين الذي دون محبّة يبقى فراغًا قاتلًا، حرفيًّا ومجازيّا. وقد تخدم المؤسّسات البشر، وتقدّم المال، والمساعدات، ولكن إن فعلت ذلك كلّه واحتقرت الإنسان الذي تقدّم له كلّ ذلك فكلّ عملها لا معنى له، ويبقى باطلًا لأنّه يسحق كرامة الإنسان بينما يقدّم له وسائل الاستمرار بالعيش. وما كان سحق كرامة الآخر ليكون لولا سبقه غيابٌ للإنسان الملموس عن القلب، قلب العاملين في المؤسّسة وقلب ناظمي طرق سير العمل فيها، وكم من طريقة في العمل تسحق الكرامة. في مؤسّسة كنديّة تدعى «بنك الطعام» كان الإنسان المضطر لاستخدام خدمات «البنك» ليأخذ المواد الغذائيّة مجانًا أن يأتِ بأوراق تثبت عدد أولاده وعنوانه ويقوم ببعض الإجراءات. قرّر القائمون على «البنك» لاحقا إلغاء كلّ الإجراءات والأوراق وأن يُعطى المواد الغذائيّة مجانًا كلّ مَن يطلب. هذا التغيير أكثر احتراما للكرامة، أُلغيت كلّ آليّة تضطرّ المحتاج على شرح حاجته. لكنّ المؤمن حقّا – ذاك الذي يعتقد أنّ الإيمان ليس مجرّد تصديق لأفكار، بل يجب أن ينسحب على الحياة اليوميّة- لما يمكنه أن يقبل بالرأسماليّة فقط لأنّها تعمل لمصلحته بينما تسحق الملايين غيره، ولهذا يفهم أنّ وجود «بنك طعام» هو بحدّ ذاته دليل على أنّ هذا النظام الاقتصاديّ لا يهدف إلى خدمة الإنسان الملموس وحياته بكرامة، يفهم أنّ النظام يصبح إنسانيّا عندما لا يعود فيه إنسان يحتاج إلى طعام، فيقدّم للناس مجالا ليعيشوا بكرامة من تعبهم دون أن يسلب منهم حرّيتهم؛ يفهم أنّ الحرّية الحقّة تجمع الحرّية من الحاجة والحرّية من القهر، أيّ أنّها تتحقّق بالمحبّة القائمة على الحرّية والمشارَكَة. لا الأفكار، ولا الكلام، ولا الكتابة، ولا البنى الضخمة، ولا الأموال، ولا الجامعات، ولا المدارس، ولا العلوم، ولا الأديان، ولا الآلهة، تحمل أيّ معنى إنسانيٍّ دون الإنسان الملموس. إن غاب الآخر في أفراحه وأحزانه عن قلوبنا ضعنا عن المعنى. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |