خريستو المرّ – الثلاثاء ١٩ أيلول/سبتمبر ٢٠٢٣
«الحبّ هو الملكوت الذي حدّثنا عنه السيّد رمزيّاً عندما وعد تلاميذه أنّهم سيأكلون في الملكوت: "لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي". فما الذي سيأكلون إن لم يكن الحبّ؟ ... عندما نبلغ الحبّ نبلغ الله، وينتهي طريقنا: نكون قد وصلنا إلى الجزيرة التي خلف العالم، حيث الآب مع الابن والروح القدس: لهم المجد والقوّة»، بهذه الكلمات اختصر القدّيس اسحق السرياني لبّ رسالة يسوع المسيح؛ ومَن لم يفهم هذا اللبّ، أو تناساه غابت عنه الرؤية، ومَن قاومها وحاول تكبيلها كان عابد ذاته وجماعته. حين قال يسوع أنّ «الروح يهبّ حيث يشاء» وفتح بذلك في الفكر والقلب باب حضور الله في مَن يتبعه وهو يعلم ومَن يتبعه وهو لا يعلم، حاول أن يحرِّر الله من قبضة المتزمّتين من أتباعه في كلّ زمن، أولئك الذين يريدون أن يقبضوا على الله ويحتكروا حضوره بين الناس. قمّة المحاولات في الوسط المسيحيّ سمعتها يومًا في فذلكة تقول «صحيح أنّ الروح يهبّ حيث يشاء.... ولكن الروح تضبطه الأسرار [طقوس كنسيّة]"، أي برأي هؤلاء، الكنيسة الملموسة المنظورة تمسك بالروح، لأنّه لا يمكن للروح أن يكون خارج الأسرار الكنسيّة. لعمري لم أجد قلوبًا أكثر ضيقًا من تلك التي تتفوّه بهكذا كلمات. المسيح يقول الله حرّ أن يهبّ حيث يشاء، وهناك مسيحيّون يقولون له «لا، الكنيسة يمكنها تحاصر إرادة الله». بالطبع يمكن للفذلكة أن تكمل مشوارها وتقول أنّ الأسرار أسّسها الروح نفسه، وأنّ الروح هو الذي أَسَرَ نفسه بالكنيسة ومؤسّساتها وطقوسها؛ وهو قول لو قيل لكان يشيح الوجه عن قطعة طقسيّة تقول عن الروح أنّه «الحاضر في كلّ مكان وصقع والمالئ... الكلّ». الروح يهبّ حيث يشاء، لا يضبطه شيء، لا مسيحيّين، ولا بلد، ولا لون، ولا جنس، ولا جندر، ولا لغة (لا يونانيّة ولا روسيّة ولا لاتينيّة)، ولا قوميّة، ولا أيّ أمر آخر. ولا أيّ مشروع بشريّ مهما كان شريفا (وهذا نادر) أكان سياسيّا، أو حزبيّا، أو ثقافيّا، أو فكريّا. الله محبّة كاملة كما بيّن يسوع، وهو مُعطى لمن يشاء، والروح القدس يهبّ في الجميع وحاضر في الجميع بطريقته، ويدلّ الجميع إلى الحبّ الإلهيّ. كلّ إنسان يتجاوب مع الحبّ الإلهيّ آمن بوجود الله أم لم يؤمن، آمن بالمسيح أم لم يؤمن، هو في قلب الله، أعجبنا ذلك أم لم يعجبنا. أمّا الذين يتجاوبون فيُعرفون بثمارهم، وثمار الحبّ تدلّ على نفسها بنفسها. هؤلاء يأكلون الحبّ ويُطعمونه لغيرهم، لهم أجسادهم وحياتهم وأموالهم ووقتهم وعنايتهم، يملكون كأنّهم لا يملكون، يهبّون كالروح حيث يشاؤون وحيث تدفعهم أقدراهم أن يكونوا، يسعون لوجه الإنسان لأنّهم يسعون لوجه الله، يرفضون الظلم ويسعون لرفعه، يريدون الحرّية والكرامة البشريّة حقّا، يحبّون الحياة حقّا ويريدون لها أن تنتعش وتنمو؛ هم «رائحة المسيح الذكية لله، في الذين يخلصون وفي الذين يهلكون. ولكنّهم لهؤلاء [الذين يهلكون] هم رائحة موت، ولأولئك [الذين يخلصون] رائحة حياة لحياة»، فعطر حبّهم الزكيّ يُفرح المحبّين ويثير حنق الكارهين؛ ولذلك يُضطهدون فعبّاد أنفسهم يكرهون الحياة. كلٌّ في حياته يتذكّر وجه إنسانٍ أطلّ عليه كملاكٍ مُرسَل. الله يدعم الإنسان ويحبّه بطرق لا نعرفها؛ بل الله مستعدّ أن «يموت» من أجل الإنسان، كلّ إنسان، هذا ما قال وجود يسوع بيننا، وقد كتب القدّيسون قديمًا أنّ كلمة الله تجسّد لكي يستطيع أن يتذوّق الموت مع محبوبه الإنسان، فيشاركه كلّ شيء، حتّى الموت الذي لم يكن يتذوّقه وهو إله. في اليوم الأخير لا ينزل الله بأحد عقابًا، لا يقدّم شرّا، لا يؤذي الناس يومها كما هو لا يؤذيهم اليوم، فهو محبّة صرفة، كأس مُسكرٌ للجميع، ولكن في ذلك اليوم هناك مَن يريدون أن يشربوه ومن لا يريدون، ولهذا قال القدّيس السريانيّ العظيم عن الله-الحبّ أنّ «الحبّ يعمل بطريقتين مختلفتين، فإنّه يصبح عذاباً في الهالكين وفرحاً في المطَوَّبين. الله الذي هو نبع كلّ ما يمكن تصوّره من حياة وفرح يقدّم نفسه حياة وفرحًا لكنّ مَن اعتادوا على إغلاق القلب لا يأخذون، هذه هي جهنّم، احتفال حبّ يرفض البعض المشاركة فيه لأنّهم اعتادوا رفض الحبّ. أمّا المحبّون اليوم، فهم يعبّون من الحقيقة والحرّية والفرح عن أيّ طريق أتت، ومن أيّ جهة هبّت، لأنّ قلوبهم تشتاق الروح كما تشتاق الأيائل إلى الماء الحيّ، ويشتاقون أن يكونوا في هذا العالم هبوبًا للروح. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |