خريستو المرّ – الثلاثاء ١٢ أيلول/سبتمبر ٢٠٢٣
يرتاح الإنسان إلى التفاني والإخلاص، الأرجح أنّهما حاجة إنسانيّة لأنّهما يشكّلان لحمة في الجماعة. لذلك نرى الناس في كلّ العصور ينبذون الخيانة ويكرهون الأنانيّة ويتفانون في العبادة ويخلصون لآلهتهم، ويتفانون في تربية الأطفال، وفي أعمالهم، ويخلصون لأحبّائهم وأصدقائهم، وأوطانهم، ويتفانون ويخلصون لأفكار مختلفة حتّى ولو كانت فكرة رفض التفاني والإخلاص. لكنّ التزام الإنسان بمبدأ أو فكرة أو إيمان يخلص له، ويتفانى من أجله، ليس هو بيت القصيد؛ وإنّما بيت القصيد يكمن في موضوع التفاني والإخلاص. فقد يكرّس الإنسان نفسه لمثال أعلى يدفعه كي يحمي الأولاد، أو يكرّس نفسه بمبدأ أو إيمان يوجب عليه قتل أولاده، ألم يحدث ذلك في ديانات بائدة قدّمت أضاحٍ بشريّة إلى آلهة؟ ألا يحدث ذلك اليوم حين يقدّم الناس أولادهم أضاحٍ إلى إله الحرب تحت ألف مسمّى ومسمّى (نشر الديموقراطيّة والحرّية، والدفاع عن قومنا «هناك»، مثلاً)؟ كما يمكن للإنسان أن يكرّس نفسه لتدمير الحياة أو لحماية الحياة ونموّها؛ وأن يكرس نفسه لهدف جمع الثروة واقتناء سلطة أو بالعكس لهدف عيش المحبّة والإنتاج والمشاركة. لكن طالما أنّ بعض هذه الأهداف قد يكون غير مرغوب اجتماعيّا (تدمير الحياة، قتل الأولاد) يغلّفها الإنسان بدعاية تصوّرها على أنّها أهداف دفاعٍ عن الحياة، أو الدين الحنيف، أو العقيدة المستقيمة، أو الجماعة، أو الوطن، أو الديموقراطيّة، لكي يتمّ القبول بها اجتماعيّا ويندفع الناس لالتزامها. لهذا وجب تفكيك الخطاب حول الأهداف، أكان ذلك لدى الأحزاب أو طلّاب السلطة، أو جارك المتفاني في البناية، أو لدى أنفسنا ذاتها. حتّى الحبّ والمحبّة قد يكونان غطاء لأهداف تعاكسها. فتحت مسمّى التفاني في المحبّة والحبّ قد يخنق الإنسان حياته وحياة غيره، فيتفانى في التربية، مثلًا، ولكن يطلب في المقابل طاعة مطلقة من أولاده، ويبالغ في التفاني في العمل مدمّرا حياته وحياة عائلته من أجل بناء ثروة لا يحتاجها. بل تحت مسمّى التفاني في الحبّ والمحبّة قد تقضي زوجة حياتها مسحوقة من رجل معنِّف أو مُذِلّ، وتحت مسمّى الإخلاص والتفاني في الإيمان قد يقبل إنسان أن يسحق نفسه ويذلّها ويمسخ حرّيته أمام رجل دين؛ هكذا شخص، لا هدف له سوى التخلّص من عبء حرّيته، إذ «ليس لديه حاجة أكثر ملحاحيّة من أن يجد شخصًا يمكن أن يسلمه، بأسرع وقت ممكن، عطيّةَ الحرّية التي وُلِدَ عليها» كما كتب دوستويفسكي في «الإخوة كرامازوف». لهذا، فإنّ النقد، والحوار، وطرح الآراء المخالِفَة لما هو مُتعارَف عليه، ضرورة قصوى لتفكيك الخطابات حول التفاني والإخلاص وأساسًا حول الأهداف المُعلَنَة. من هنا فإنّ حرّية الفكر ضرورة لا يمكن اختزالها إن أردنا أن نسير كجماعة نحو حقيقة إنسانيّة، وأن نحيا على أساسها. ولكنّ الإنسان يفضّل الوهم على الحقيقة إن كان الوهم يخفّف عنه عبء الحرّية، عبء التفكير الذي يغيّر نظرته للعالم، عبء الوقوف مستقلّا، عبء تحمّل مسؤوليّة أفكاره، عبء وحدته إذا اختلف مع الجماعة التي يرتاح إليها، عبء مسؤوليّته عن حياته، عبء مسؤوليّته عن رفع الظلم، عبء مسؤوليّته أن يكون حرّا وأن يكون نفسه. الشجاعة ضرورة لكلّ تكريس للذات لمطلق أيّ مبدأ أو إيمان. ولكي يخرج القارئ من العموميّات الجميلة التي يوافق عليها الناس عادة، فلنعطِ مثلًا، هل يمكن مقاربة موضوع المثليّة والمثليّين دون اللجوء إلى حسم الموضوع مسبقًا بناء على ما يظنّه الإنسان تفانيًا في خدمة الإيمان القويم والمبادئ الإنسانيّة العليا (العائلة مثلًا)؟ الغضب والضيق الذي يشعر به بعض القرّاء الآن لمجرّد طرح الموضوع، يقول: صعب بالتأكيد. الحقّ الذي يحرّر جميل، والحرّية التي تسمح للحقّ بالبروز إلى حيّز الحياة جميلة، ولكنّهما مُكلفين؛ ولهذا ينحى الإنسان إلى تفضيل العبوديّة للقطيع على الحرّية، وتفضيل العيش المحض على الحياة المتدفّقة من ينابيع الحقيقة، وإدمان أمان الجماعة على كلفة الحقيقة، وقد يفضّل ألّا يعلم على أن يعلم. لكنّنا نعيش هذه الحياة مرّة، فيا لها من فرصة مهدورة أن يعيشها الإنسان بالتزوير، وما أجملها أن يكون ذاته بإخلاصه لخطّ الانفتاح على الحقيقة الراكضة أمامنا أبدًا، وما أجمل أن نركض خلفها معًا. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |