خريستو المرّ – الخميس ١٤ أيلول/سبتمبر ٢٠٢٣
ليس من أوسع من جنونك وأنت معلّق على الصليب، ليس من حدثٍ أكثر غرابة، أكثر دهشة، ليس من أفقٍ أكثر تشتيتًا للفكر، ولا أكثر تحطيمًا لفكرة السيادة، ليس من أكثر جاذبيّة لذلك النصر الذي اختبأ في ألمك، ثمّ هادئًا تسرّب في لحم العالم ليصبح التراب جبلة حبّ تضيء بالأبديّة، فيبلغ غايته. جنونك أنّك الإله الذي أتيت لنا مثلنا وكُنتنا، أنّك مشيت بيننا وقلتَ وفعلتَ بلا شيء، وباللاشيء الذي أحطت به نفسك، باللاشيء الذي اختبأ خلفه نبعُ كلّ شيء أخذتَ الأشياء إلى حبّك العالي وأضأتَها، وأيقظتَ في القلوب وعودَ النهار فتجلّى العالمُ كما يتجلّى المحبّون في هبوب الشوق. قلتَ أنّ مجدك هو أن نحيا وتتأجّج فينا الحياة، وأنّك لا تغار من مجد الإنسان، بل تريده. وكشفت عن نفسك مجدًا، فقلتَ أنّك الأوّل والآخر، والطريق والحقّ والحياة، فكان كُفرُك الجليّ في عين مجتمعك الضوءَ الذي جذبَ المساكين إلى عينيك. رآك المساكين أخاهم الذي بدا إلهًا حين لم يأنف أن يحبّهم وأن يُنَقِّبَ القتلةُ في جنبه كي ينفجر منها نهرٌ من الضوء يُسكر المحبّين أعلى وأعلى. ليس أنّك اشتهيت الألم، ولكنّك، كإنسان، اشتهيتَ الحبّ، وصِرتَه بإصغائك حتّى النهاية للحبّ الإلهيّ الذي، كإله، كُنْتَه. سرُّك الحبّ ونحن نتعلّم على يديك، من عينيك، من كلماتك، من حنانك على المهمّشين، من كفّيك الممدودتين لتضمّ العشّاق والصعاليك، ومن نافذتي يديك، نافذتينا إلى عالم الضوء الذي يمكن أن يصيره جسمنا ويصيره فكرنا ويصيره جرحنا. هل يصير الجرح عالما من الضوء؟ يصير، تقول حكايتك. كلّ شيء حبّ، ولا شيء إلّا الحبّ، هكذا قالت بلاغةُ جسمِك الممتدّ بين وقع أقدام الإله الماشي في الفردوس وانفجار النهار الأخير. قلتَ أنّ الألم يحدث لأنّ الحياة حدثت، حين أردتها حدثت، ثمّ قلت لعيوننا المعلّقة على مشهد جسدك المعلّق على الصليب، أنّ حطام الجسد على صخرة الألم ليس الحكاية الأخيرة، قلتَ أنّ الألم يتحطّم على صلابة الحبّ الذي ينبت من الحنان ومن رغبة الإنسان أن يكون إلهًا؛ ومعلّقًا جعلتَ نفسَك للرغبة القنديلَ والطريق. جنون حبّك الذي غنّاه مجيئُك وصليبك وقيامتك، يقول أنّك لا تتفرّج على أوجاعنا، يقول أنّك أنت المتوجّع لأوجاعنا بامتياز لأنّك الإحساس بامتياز، لأنّك الحسّاس لنا أكثر منّا لأنفسنا. جنون حبّك يقول أنّك أنت المصارعُ معنا في حلبات العيش، لكي تكون لنا الحياة وتكون أوفر. ولهذا أيّها الإله المجنون حبًّا قدّمتَ إلينا كلّ الحياة، قدّمت إلينا نفسَكَ فجعلتَ الحياةَ الأبديّة طعامَنا، جعلت نفسك طعامًا وشرابًا للذين أحبّوك، وللذين أحبّوا، فأحبّوك دون أن يعلموا؛ فإذا بكلّ ما حلمته الإنسانيّة من بلوغٍ للألوهة، كلّ ما خطر وما لم يخطر على بال إنسان منذ البدء حين وضع قُربانًا لإله أو قدّم له ذبيحة مرتجفًا، إذا بك تجعَلَه بمجانيّة بمتناول الجميع حين تصعد ذاك الصليب وتصرع الموت وتترجّل بعد ثلاثة أيّام لتفتح الطريقَ أمامنا كي نكون أنفسنا العميقة، ونبلغ بِخَيْلِ الرغبة تخوم الأبديّة التي تتراجع كلّما لامسناها لكي لا تفتر فينا النار. أنت أيّها الإله الإنسان الذي أجّجت نار الحبّ حتّى لا نبقى في البرد، وجمعت المهمّشين والمضطهدين والملفوظين من عائلاتهم ومجتمعاتهم، أنت سيّدنا إن ساد فينا الحبّ فكنّا رُعاة الحياة، ليغمرنا وجهك حين نُبحرُ، ويغمُزنا الأبدُ. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |