خريستو المرّ
الأحد 11 أيلول آب / سبتمبر ٢٠٢٢ عدا الثروات، يسعى المستعمِر إلى سلب عقلِ المستَعْمَر من فكرة مساواته في الكرامة والقيمة مع الـمُستَعمِر؛ ليصبح قبول قيمة الذات الدونيّة أمرًا عاديًّا وصحيحًا في ذهن المستَعْمَر. كلّ كلامنا المنتشر عن أنفسنا كشعب بأنّنا نحتاج لمئات من السنوات "لنصبح بشرا"، أو بأنّنا كعرب أو مسلمين لا تنفع معنا الحرّية، أو بأنّ عقلنا قاصر وبأنّ الانفعال طبعنا، وبأنّه لا يمكن أن نعيش دون قمع، هو بالضبط كلام المستعمِر عنّا حين استعمَرَنا. بالقمع والإرهاب أرسى المستعمِر أدوات استغلاله لأجدادنا، ولم يترك لهم إرهابه إلّا الطاعة والاستزلام والتزلّف والخضوع للاستمرار في الحياة وضمان شيء من الأمن على الحاضر والمستقبل؛ ثمّ عاد ووصفهم بالمتزلّفين والمستزلمين وقليلي الكرامة! المشكلة أنّ هذه النظرة الدونيّة التي ليست هي من «الطبيعة» وإنّما ناتجة عن حكم إرهاب الـمُستَعمِر ولصالحه، تتسرّب إلى نفوس الـمُستَعمَرين؛ ونحن كما غيرنا من الشعوب لم نتحرّر تمامًا من هذا الاستلاب الداخلي، إخوتنا الجزائريّون تحرّروا بشكل أفضل لأنّهم قاتلوا ودفعوا دمًا غزيرًا ليطردوا المستعمر، ولأنّ أجساد نسائهم وأطفالهم ورجالهم تعرف مذاق رصاص الاستعمار الفرنسيّ وتعذيب سجّانيه. يساعد على استمرار التبعيّة النفسيّة أنّ القيادات السياسيّة ما تزال تتصرّف بانبطاح أمام المستعمِر الذي لا يزال على إجرامه ولكن بطريقة خفيّة: منذ فترة وجيزة كانت القيادات اللبنانيّة صاغرة تجلس صاغرةً حول الرئيس الفرنسيّ ماكرون، والبارحة قام رئيس وزراء يقوم بعمل ذليل بإعلانه الحداد على ملكة بريطانيا ثلاثة أيّام! بريطانيا وفرنسا اللتان نهبتا وشرّدتا وقتلتا ومعا ما تزالا تدعمان استعمار فلسطين وتشريد الشعب الفلسطينيّ، وما تزالا تدعما نظام الفصل العنصريّ الصهيونيّ الذي يهدّدنا كلّ يوم ويخترق أجواء في لبنان، ويقصف في سوريا ويعدّ العدّة لمزيد من العسكرة لأنظمة المنطقة للتعاون على قمع شعوبها. نحن لا نزال نرى (بحكم الدعاية والنظم التربويّة المتغرّبة عن واقعها) نرى فقط أوروبا الجميلة في فلاسفتها وعمارتها وأميركا البحبوحة الخياليّة، ولا نبذل جهدا لنعرف عن وقوف أميركا وأوروبا ضدّنا، عن استغلالها لنا، عن نهبها اليوم لأفريقيا مثلا (المصرف المركزيّ الفرنسيّ وحده يدخله نصف ترليون دولار سنويًّا من أفريقيا)، لنرى وننتقد ونعارض ونقاوم أوروبا التي تحكم بالجريمة (وكلّ نهب هو جريمة) خلف ستار كثيف من دعايات حقوق الإنسان التي هي حصرا حقوق إنسانها، والحال ذاتها في أميركا الشماليّة. إن كان لدينا مَن ينهبنا داخل الوطن وتجب مقاومته فهذا لا يعني أن يبقى عقلنا غائبًا عن رؤية ناهبينا الكبار ومدمّري بلادنا وهذا الكوكب الذين يعيثون فيه فسادًا حول العالم ويجلسون على أرائك كمّ هائل من النفاق حول حقوق الإنسان. هذا الاستبطان لنظرة دونيّة للذات، أي النظر إلى الآخر الذي استعمرنا مباشرة يومًا، ويستعمرنا بشكل غير مباشر اليوم، على أنّه ذا قيمة أعلى، نلاحظه في التفاعل السهل العفويّ مع مآسي تلك الدول (وهو أمر جيّد) المتلازم مع نسيان مآسينا، ليست تلك المباشرة المتعلّقة بطعام أو كهرباء أو عمل، وإنّما مآسينا الجامعة، العامّة، التي تجمعنا كشعب: مآسي احتلالنا، ونهبنا، ودور أوروبا وأميركا في حماية ناهبينا، وتشريد شعبنا، وشنّ الحرب تلو الحرب علينا، وإنّي أحصر كلامي هنا قصدا بهذه الدول لأنّ نقدها بالذات غائبٌ. هذه ليست دعوة كراهية لشعب أو مجموعة، هذه دعوة للتنبّه إلى أنّ هناك ضرورة قصوى لنحبّ أنفسنا، لنتضامن مع ذاتنا، فالتضامن مع الآخرين إن ترافق مع احتقار أو تهميش للذات أمرٌ خطيرٌ ومرفوض. لنتضامن مع الإنسان في كلّ مكان، ونقاوم الجريمة في كلّ مكان. هناك ضرورة أن ندين الشرّ ونقاومه وذلك يبدأ بأن نراه حيث هو، ليس فقط حيث هو بادٍ وواضح، بل أيضًا حيث هو خفيّ ومختبئ تحت سلسلة هائلة من الكذب والخداع. لقد قيل في الإنجيل أنّ الشيطان نفسه قد يأتي بشكل ملاك نورانيّ، اليوم هذا الشيطان المخادع يكمن في حكومات أميركا وأوروبا، يجب أن نصنّفها في ذهننا مع الشياطين المخادعة التي بيننا، من عتاة النهب والسلب، ومن عتاة القمع الذي يعذر نفسه بأعذار القَتَلَة المستعمرين من نوع «نحتاج لمئات السنوات لنصبح بشرا»، و«شعوب لا ينفع معها إلّا القمع». Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |