خريستو المرّ – الثلاثاء ١٥ آب/أغسطس ٢٠٢٣
الأخلاق والشعور سلمى شابّة لطيفة وتحبّ المحافظة على البيئة، وتعمل في مشرحة في إحدى المستشفيات. أثناء عملها وحدها في إحدى الليالي، تصل إليها جثّة إنسان توفّي للتوّ وعملها يتطلّب منها أن تحرق الجثّة، وهو أمر مقبولٌ طبّيًا وقانونيّا في بلدها، لكنّ سلمى شعرت بالأسى أن تُحرق الجثّة ولا يتمّ الإستفادة منها بينما هي لا تزال صالحة للأكل، فقرّرت أخذ قطعة لحم من الجثّة إلى البيت وقامت بطهيها وأكلها. هل موقف سلمى مقبول أخلاقيًّا على افتراض أنّه قانونيّ؟ هذا النصّ خياليّ، وإن كنّا كالأغلبيّة الساحقة من الناس الذين قرأوا هذا النصّ المأخوذ من الباحث في علم النفس الاجتماعيّ جوناثان هايدت، نكون قد قرّرنا فورًا أنّ الموقف مرفوض وغير أخلاقيّ؛ ولم نأخذ وقتًا لنفكّر ونقرّر إن كان الموقف أخلاقيًّا أم لا، بل كان قرارنا فوريًّا، وارتكز أساسًا على شعور بالرفض، بالقرف، وربّما بالغضب. وسيتمسّك واحدنا بحكمه الأخلاقيّ إلى النهاية حتّى ولو لم يجد سببًا واحدًا مُقنعًا لحكمه؛ فهو مقتنعٌ بقرارة نفسه أنّ موقفه الأخلاقيّ هو الصحيح. بالطبع، هناك أوضاع كثيرة أخرى يمكن بسهولة إيجاد مبرّرات لأحكامنا الأخلاقيّة تجاهها، مثل رفض ضرب إنسان لأنّه يجب عدم إيذاء الآخرين؛ ولكنّ اختبارات هايدت وغيره تدلّ على أنّ الحكم الأخلاقيّ لا ينطلق من مبرّرات فكريّة، بل على العكس، هو ينطلق أساسًا من مشاعر يثيرها الحدث فينا، ثمّ تأتي المبرّرات الفكريّة للحكم الأخلاقيّ، بل ويستمرّ الحكم الأخلاقيّ حتّى ولو لم نتمكّن من إيجاد تبرير منطقيّ له. أصل المشاعر الأخلاقيّة الشعور الذي يؤسّس لمواقفنا الأخلاقيّة إمّا متوارث أو نتيجة التربية. فالأطفال، وهم في عمر بضعة أشهر، قادرون على التمييز بين الإنسان الذي يساعد غيره وذاك الذي لا يساعده، ويفضّلون التعامل مع الأوّل؛ هذا عدا ميل الأطفال إلى مساعدة غيرهم عفويًّا. هكذا نستنتج أنّ الشعور الذي يجعلنا نفضّل أخلاقيًّا مساعدة الغير، متوارثٌ. في المقابل هناك مشاعر تنقلها التربية وتؤدّي إلى أخلاق مرتبطة بالمجتمع؛ فالإنسان يتعلّم شعورًا بالارتياح أو بالنفور من بعض الأوضاع بحسب التربية والمحيط، وبحسب هذا الشعور المُتَعَلَّم يبرز مبدأ أخلاقيّ. المهمّ أنّه أمام كلّ وضع هناك مشاعر تقودنا إلى إصدار حكم أخلاقيّ محدّد. والمشاعر تحتوي عادة على حدْس أي تفكير أوتوماتيكيّ يحدث عفويّا، نقرّر على أساسه حكمنا الأخلاقيّ؛ وبعد ذلك نحاول أن نحلّل لنبرّر حكمنا. كيف يمكن تغيير المواقف الأخلاقيّة؟ هناك إمكانيّة، وإن ضئيلة، بأن يحاول الإنسان أن يغيّر أحكامه الأخلاقيّة بنفسه من خلال مراجعة ذاتيّة لتبريراته ومشاعره ليعدّل من رؤيته للواقع، فيتغيّر بذلك شعوره وحدسه تجاهه. إمكانيّة التغيّر تصبح أوفر من خلال الحوار مع آخر. لكن من المرجّح ألّا يؤدّي تبادل الحجج المنطقيّة الباردة إلى نتيجة دون مخاطبة الحدس والشعور. أمّا إن أبدى المُحاوِرُ احترامًا للآخر وفهمًا وإصغاءً لمشاعره (الكامنة وراء حججه)، مهّد بذلك سبيل الآخر للإصغاء إلى حدْسٍ مختلف وموقف شعوريّ مختلف يحملهما المُحاوِر، وبالتالي فتح مجالًا للآخر لتغيير حدسه ومشاعره، وبالتالي حكمه. والحظّ بالتغيير يغدو أكبر إن كان الخطاب محمّلًا بالمشاعر وليس فقط بالمنطق، كما يشير هايدت، وهو ما يحدث حين يصلنا «الخطاب» من خلال فيلم بديع، أو رواية جميلة، أو خبر مؤثّر. أمّا الأمر الأكثر حظًّا لتغيير الحكم الأخلاقيّ فهو التأثير الاجتماعيّ، حيث إنّ معظمنا مستعدّ أن يعدّل من مواقفه ومشاعره ليتبنّى ما يرضي الأكثريّة في محيطه. هذا الاستعداد لكسب رضى الأكثريّة عابر للثقافات، ولهذا فإنّ مَن يشيرون بشجاعة في مجتمعاتهم إلى طريق أخلاقيّ لا تدين به الأكثريّة يسمّيهم الناس أنبياء. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |