خريستو المرّ – الثلاثاء ٨ آب/أغسطس ٢٠٢٣
هناك تاريخ طويل من الاحترام للعقل والفكر في التراث الحضاريّ على حساب الشعور. وعادة ما نتّخذ مواقف توحي بأنّ الإنسان متنازع بين الفكر والشعور ونعطي أولويّة للفكر على الأخيرة. اعتقد أفلاطون، مثلًا، أنّ الفكر هو صنيعة الخالق، ولكنّه لم ينظر بشكل إيجابيّ إلى الجسد والشعور وغيرهما، بل كان يعتقد أنّها أمورًا «أدنى»، وأنّ رقبة الإنسان موجودة لتسمح بمسافة بين «الأعلى»، أي العقل والفكر، و«الأدنى» أي الجسد بمشاعره ورغباته (يمكن العودة لكتاب أفلاطون Timaeus، 69 d-e). أمّا ديكارت، صاحب القول الشهير «أنا أفكّر إذا أنا موجود»، فهو الفيلسوف المنظّر لثنائيّة الجسد والعقل، حيث كان يراهما مختلفان جوهريًّا. هذه المقاربة للشخص البشريّ تركت أثرها في تاريخ دينيّ طويل يقارب الجسد بشكل سلبيّ، ويرى في الشعور ضغطًا على الفكر العقلانيّ يشتّته، ويجعله غير قادر على الحُكم السليم. هذه النظرة السلبيّة لخبرات الشعور (والجسد عامّة) تدحضها كشوفات علميّة بقيت مطمورة ولم تنتشر كفاية في ثقافتنا اليوميّة. يذكّرنا الباحث في علم النفس الاجتماعي جوناثان هايدت بملاحظات الباحث في علم الأعصاب روبيرتو داماسيوّ حول حالات طبّية لأشخاص تضرّر جزء من أدمغتهم (يقع خلف الأنف ويدعى ventromedial prefrontal cortex) ففقدوا جرّاء ذلك قدرتهم على الشعور بشكل شبه تام؛ بحيث أنّهم لم يعودوا قادرين أمام مشهد معيّن على الشعور لا بالفرح ولا بالقرف ولا بأيّ أمر آخر. ومع أنّ هؤلاء بقوا قادرين على التفكير والحكم الأخلاقي، أي التمييز بين المقبول أخلاقيّا وغير المقبول، إلّا أنّهم فقدوا القدرة على التفكير السليم. فالمفاجئ أنّهم بفقدانهم قدرتهم على الشعور لم يعودوا قادرين على اتّخاذ قرارات يوميّة في حياتهم، وفقدوا القدرة على اتّخاذ قرار حتّى في المهام التحليليّة الصافية التي نراها أنّها تنتمي إلى نطاق الفكر بشكل خاص. وهذا ما يدلّ أنّ العقل لا يمكنه أن يكون عقلًا فعلًا إلّا بمساهمة من الشعور، على عكس ما ترسمه الرؤية الأفلاطونيّة أو الديكارتيّة للإنسان. إنّ القرارات اليوميّة التي نتّخذها دون تفكير وتمحيص ترتكز أساسا على الشعور: نصغي لشخص لأنّنا نتعاطف معه، نبتعد عمّن يوحي بالأذى لأنّنا نشعر بالخوف، نتجنّب المتملّق المُداهن لأنّه يثير فينا شعورًا بالقرف، نشتري فاكهة معيّنة لأنّنا نرغب فيها، إلخ... أمّا بالنسبة لهؤلاء المُصابين فقد لاحظ الأطبّاء أنّه بات عليهم أمام أيّ موقف وفي كلّ لحظة أن يتقصّوا كلّ الإمكانات ويزنوا سلبيّاتها وإيجابيّاتها لكي يصلوا إلى قرار سليم؛ وبالطبع هذا يجعل الحياة اليوميّة صعبة للغاية. هذه المعارف تدلّنا بشكل لا لُبس فيه إلى أنّ فكّ الفكر عن الشعور لا يحرّر الفكر من «وطأة» مزعومة وإنّما يتسبّب بتعطيل الفكر بحيث يصبح غير قادر على التحليل السليم أو اتّخاذ القرارات. بالطبع كلّنا نعرف أنّ الانفعال العارم، كالغضب، يشكّل ضبابا للفكر، وأنّ الشعور يحتاج إلى فكر لكي ينضبط ولا يتوه؛ ولكن المعطيات العلميّة (والخبرة نفسها) تقول بأنّ الفكر يحتاج إلى الشعور، وأنّه دون الشعور يتوه بدوره. الموقف السليم هو النظرة إلى الإنسان ككلّ، كوحدة متكاملة، دون وضع جزء منه كقيمة أعلى من أجزاء أخرى، في ثنائيّات قاتلة للحيويّة الإنسانيّة. الشعور طاقةٌ أساس في الشخص البشريّ وينبغي أن نتعامل معها باحترام وأن نعطيها حقّها، وهو ليس فقط أساس للفكر السليم كما ننقل هنا، بل يلعب دورًا أساسًا في تمتين البُنى الأخلاقيّة التي نلتزم بها، وهو ما سنتركه للمقالة المقبلة. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |