الثلاثاء 25 آب،أغسطس 2020
خريستو المرّ الأخبار تتواتر عن عطش ضارب في أجساد أهل الحسكة في سوريا. وكما جرت العادة، يتحارب الأعداء بالناس، وباسم ألف شعار يقتلون. في سوريا اليوم، العطشُ غدا سلاحًا، كما كان التجويع سلاحًا. وكالعادة، النكرانُ هو السيّدُ، والكذب الإعلاميّ هو الوسيلة. وقد لا يعرف أحدٌ من الأحياء ما هي حقيقة مشاعره، وما هي حقيقة رأيه، إلاّ إن غدا يومًا ما حُرًّا. ففي ظلّ القمع والخوف من الموت، كلّنا قد يكذب على نفسه. ما يثير الحزن أيضًا هو الصرخة التي نسمعها حين يكون الضحايا أناسًا سقطوا نتيجة جريمة ارتكبها فريق الأعداء، والصمت أو التبرير الذي نسمعه أيضا عندما يكون الضحايا سقطوا نتيجة جريمة ارتكبها فريق الذات. التبرير يتّبعه الجميع، ويتعلّمه الجميع من الجميع؛ الولايات المتّحدة اخترعت عبارة "الدروع البشريّة" في حرب العراق، فإذا بالذين انتقدوها البارحة يستخدمون العبارة نفسها في الحرب السوريّة لتبرير جرائم فريقهم. تبلُّدُ الإحساس بأوجاع الآخر يُغرِّبُ كلَّ إنسان عن إيمانه لأنّه يغرّبه عن إنسانيّته. إهتمامي اليوم بموقف المسيحيّين. أعلم أنّ استخدام المسيحيّين للدين، من أجل الحرب والقتل وارتكاب المجازر، فضيحة موجودة، ولكن ليس اهتمامي الآن بالمجرمين وبالمنافقين وبالعابدين ذواتهم الجماعيّة. أهتمّ الآن بالإنسان المخلص ليسوع وبموقفه من الحياة العامّة. تتأثّر رؤية المسيحيّين المخلصين لدور إيمانهم في السياسة بمدى قمعيّة النظام السياسيّ الذي نشأوا في ظلّه؛ فمن نشأ في ظلّ نظامٍ قمعيٍّ يرَ عادة أنَّ إيمانَه يدفعه إلى أن يكتفي بالمساعدات الاجتماعيّة، ومن نشأ في ظلّ نظامٍ أكثر احتمالًا للحرّية له حظّ أوفر بأن يرى أنّه من الضروريِّ أن ينطلق الإنسان من إيمانه ليكون صوتًا وطنيًّا لا طائفيًّا في الأوضاع السياسيّة. قد نختلف في هذا الموضوع، وقد نفهم الاختلاف كما أفهمه من زاوية أثر النظام السياسيّ، ولكن ما ليس مقبولًا، وما يجب ألّا يختلف عليه المسيحيّون المخلصون هو موقفهم من الضحايا، كلّ الضحايا. لا يوجد في اللاهوت المسيحيّ ضحايا يمكن البكاء عليهم والشعور معهم، وضحايا لا يعنوننا ولا نحسّ بآلامهم وبأوجاعهم، فلطالما ردّد التعليم الدينيّ بأنّ الخطيئة هي عدم الإحساس كما قال القدّيس اسحق السريانيّ يومًا. إن كان من موقف إن خانه الإنسان خان مسيحيّته فهو الموقف المتعاضد مع الإنسان البريء المعلّق على الصليب، على كلّ صليب: أكان صليب العطش، أو صليب التجويع، أو صليب الأسلحة العاديّة أو الكيماويّة، أو صليب البراميل، أو صليب القمع، أو صليب الاغتصاب، أو صليب التهجير، أو صليب التعنيف. مهما كانت نوعيّة النظام السياسيّ القائم، يمكن للمسيحيّين أن يبقوا صوت الضمير في وطنهم بالتذكير بأنّ الأبرياء هم أبرياء، بأنّ الأطفال هم أطفال، وبأنّ لا شيء، لا شيء أبدًا، يبرّر قتل الأبرياء، وبنفس الأهمّية لا شيء، لا شيء أبدًا، يبرّر انعدام الإحساس بالأبرياء. حتّى الآن لا القيادات الكنسيّة ولا المسيحيّون كجماعة إيمانيّة تمكّنوا من أن يكونوا هذا الصوت. ماذا سنقول ليسوع؟ **** بعد مئات الضحايا في بيروت، ثلاث ضحايا في الكورة. أبغضوهم بلا سبب وقتلوهم بلا سبب. وهم لكونهم ضحايا بريئة تشبّهوا بيسوع دون أن ينتبه أحد. القتل فاجعة للأحياء، مهما كان عمر القتيل، فكيف إن كان ما يزال شابًّا أو طفلًا. المجرمون المباشرون قد يُقبض عليهم. أمّا المجرمون الرابضون خلف المجرمين المباشرين فهم في النهاية الذين دمّروا الدولة عندما كانوا اشتركوا في الحكومات، ومجالس النوّاب ورئاسة الجمهوريّة منذ ما بعد الطائف وحتّى اليوم. كلّ جريمة تحدث في لبنان اليوم، نتيجة انعدام الأمن والأمان الاقتصاديّ والسياسيّ والاجتماعيّ، هي مسؤوليّة من أوصلوا البلاد إلى هذه الحالة من التشرذم والضعف والتفكّك. كلّ واحد من المسؤولين اليوم هو بيلاطس يظهر على التلفاز ويغسل يديه بماء الكلام والشعارات، ويقول إنّه بريء من دم هذا الشعب. هم منافقون باعوا أرواحهم، وغدوا أدوات إمّا لشهوتهم للمال وللسلطة، وإمّا لقوى خارجيّة، أو لهذه كلّها معًا. هذا ما يفسّر انعدام إحساسهم بالفقر والجوع الناجمين عن نهب البلاد، وما يبرّر سكوتهم عن سطو المصارف على أموال الناس، وعدم اهتمامهم باستعداد البلاد لمواجهة جائحة كورونا، واستهتارهم بحياة الناس وبلامبالاتهم بوجود موادّ متفجّرة موضوعة في قلب مدينة، واستهتارهم بالتحقيقات، ودفعهم الناس للهجرة إن لم يعجبهم الحال (رئيس البلاد قالها بشكل واضح والباقون يسيرون في الخطّ نفسه ولو لا يقولوه). إنّهم مجبولون بالنفاق، واختاروا أساسا انعدام الإحساس. **** أين الله من ضحايا العطش؟ من ضحايا الجوع؟ من ضحايا الجرائم؟ أين الله من الأبرياء؟ أين الله من أوجاع الأبرياء ومن أوجاع الأحياء؟ من تأمّل في وجه يسوع حياةً بأكملها لا بدّ أن يرفض أن ينصاع لصنم وحشيّ يعظون به على المنابر ويدعونه "الله"، صنم يدع الوعّاظُ المسيحيّون الناسَ إلى قبوله لأنّهم [الوعّاظ] نسوا يسوع المسيح ولجأوا إلى كليشّيهات جاهزة. إن قال يسوع المسيح شيئًا واحدًا وبوضوح كلّي، فقد قاله بجسده الموجوع الخائف المرتجف المعلّق على الصليب شاعرًا بأنّه متروك ومرذول خارج مدن الناس وأكاذيبهم ومكائدهم وعباداتهم لأصنام السلطة والأديان. يسوع، كلمة الله، قد صار كلمته الأكثر وضوحًا على الصليب. يسوع قال بذاته المعلّقة على الصليب (ومن خلاله الله قال): أنا والضحايا الأبرياء واحد، وفي كلّ مرّة ترون ضحيّة بريئة اعرفوا أنّي إيّاها وأنّها أنا. أنا الذي يقف إلى جانب الضحيّة، بل أنا المصلوب في داخل أوجاعها. الضحيّة هي في قلبي أنا، عيونها الموجوعة طعنة لقلبي أنا، الضحيّة أختي وأخي أنا، أبي الذي قالني كلمةً قبل الدهور يراها أنا. أنا الضحيّة البريئة والضحيّة البريئة أنا. من خلال وجه يسوع المصلوب نقرأ أنّ الله لا يريد للضحايا البريئة أن تُقتَل، ولا للضحايا البريئة أن تعطش، ولا للضحايا البريئة أن تجوع، ولا أن تُهجّر ولا أن تُنتَهَكَ كرامتها، ولا أن تُعَذَّب. الله لا يريد لكلّ هذا أن يحصل، لكنّ هناك أناس مجرمون والله منذ الخلق أخذ على عاتقه احترام حرّيتنا. فليكفَّ المسيحيّون ورجال الدين عن أن يجعلوا من الله شمّاعة يعلّقون عليها إمّا جرائمهم وجرائم غيرهم، وإمّا إخفاقهم في الدفاع عن الأحياء وعن الحياة. متى نكفُّ عن كسل الإحساس والفكر. متى نكفُّ عن تشويه إله يسوع المسيح، بإلباسه لبوس صنم جامدٍ بعيدٍ صاحب حكمة بلا إحساسٍ؟ متى نكفّ عن وصف الله بأنّه يريد للناس أن يُصلبوا، فندفع بهم إمّا إلى كراهيته أو إلى الخضوع الذليل لصنم يعتقدونه هو. كما تُصلب الأمّ مع آلام أبناءها كلّهم، مصلوبٌ هو على آلامنا. واقف هو إلى جانبنا ولكن دون قهر، ويفعل المستحيل من أجلنا ولكن دون قهر. نلعن أحيانا هذه الحرّية، بلى نلعنها من الوجع، ولكن بدونها نحن لسنا بشرًا. الله محبّة حرّة مصلوبة على الحرّية الإنسانيّة. الله صُلِبَ مع يسوع ولم يصْلِبه، الله مصلوبٌ مع الإنسان وليس صالبًا. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |