خريستو المرّ – الثلاثاء ٣٠ أيّار/مايو ٢٠٢٣
الإنسان مخلوق لديه حسّ عميق للعبادة، كان دوستويفسكي يتحدّث عن "الرغبة الشديدة للعبادة" التي لدينا كبشر. في موقف العبادة يسلّم الإنسان حياته للمعبود ويكرّس نفسه ويخلص له. موضوع تكريس الذات للمعبود والإخلاص له متلازمتان في الأدب الدينيّ والكتب المقدّسة. لكنّ المشكلة هي في المعبود الذي يكرّس الإنسان له نفسه، في هذا الأعلى الذي يعبده. فإن كنّا نلاحظ بأنّ كلّ إنسان يحتاج إلى تكريس نفسه لموضوع ما، أكان دينيّا أم لم يكن، أكان شخصا أو فكرة أو غير ذلك، فليست كلّ مواضيع التكريس شبيهة بعضها ببعض. إذ يمكن تكريس النفس لِمَثَلٍ "أعلى" يتطلب قتل الأطفال (احتلال عنصريّ، دولة عنصريّة) أو لمَثَلٍ أعلى يحمي الأطفال، ولمَثلٍ أعلى يقول بأنّ الناس جميعا متساوون في الكرامة أو ولمَثلٍ يقول بأنّ بعض الناس لهم قيمة أعلى من غيرهم، لفكرة بناء الظروف التي تؤمّن للإنسان حاجاته الحياتيّة الأساس وتحترم حرّيته وكرامته أو لفكرة بناء الظروف التي تساهم في أن يسطو على ثروات الطبيعة والمجتمع وإلحاقها بذاته والسيطرة على الناس وحركاتهم، لهدف جمع الثروة أو لهدف المشاركة في الخيرات، لشهوة السلطة أو لإنماء الحسّ النقديّ والمشاركة في صناعة المصير، للسيطرة والجبن أو للمحبّة والشجاعة، لخدمة الله بخدمة عياله أو لاستخدام اسم الله لخدمة ذاته وجماعته، لعبادة إنسان أو لعبادة الله. أهداف التكريس هي التي توضح إن كان الإنسان يعبد إله حياة أو صنم موت. عادة ما نحترم الجهد الكبير الذي يبذله إنسان في عمل ما، والتضحية التي يصنعها في سبيل تحقيق أهدافه. لكنّ هذا الاحترام في غير محلّه أحيانًا، إذ يجب أن نفكّر دائما في الأهداف التي يسعى الإنسان أن يحقّقها. فالسؤال الأهمّ ليس هو حول الجهد الكبير والوقت والتعب والتضحية التي بذلها الإنسان وإنّما حول الموضوع الذي كرّس له نفسه. موضوع التكريس يختلف بشكل واسع ومتضارب بين الناس. يمكن تكريس النفس لأكثر المُثُل العليا تنوّعًا، لأكثرها خدمةً للحياة ولأكثرها تدميرًا لها. للحكم على المُثل العليا التي يكرّس الإنسان لها نفسه، علينا الاستنارة بما تقدّمه العلوم لنا اليوم حول «طبيعة» الإنسان فنكون أكثر قدرة على الحكم على «الإله» الذي يكرّس له نفسه، على الأهداف التي يضعها نصب عينيه: أهي أهداف توائم مع طبيعة الإنسان أم تعاكسها؟ تقول معطيات العلوم أنّ الإنسان مولود مع قدرة فائقة على التعاضد والتفاعل المتعاطف مع محيطه والناس حوله (يمكن مراجعة كتاب الطيبة الإنسانيّة لجاك لوكومت)، ليس أدلّ على هذا المُعطى من الراحة العميقة التي يختبرها إنسان يساعد إنسانا آخر. هذا يعني أنّ كلّ موضوع تكريس، كلّ إله، يدفعنا للتعاطف مع بعضنا هو محمود ومرغوب وكلّ ما عداه مهما كان مستوى التضحية ومستوى الجهد الذي يبذله الإنسان في سبيله فهو غير محمود ومدمّر. لهذا فإنّ أهدافا مثل جمع الأموال، والتسلّط على الآخرين، والخضوع للآخرين، والتعنيف، والاستغلال، هي أهداف لا تفعل سوى تفسيخ التعاضد والتعاطف مع الآخرين (وحتّى مع الذات إن رأينا أنّها تسيء إلى طبيعة الذات أيضًا)، بينما أهداف المشاركة وتأمين الحاجات الأساس للحياة الإنسانيّة واحترام حرّية الضمير تتوافق مع طبيعة الإنسان. على المستوى السياسيّ الاقتصاديّ هذا يعني أنّ كلّ سياسة واقتصاد يستغلاّن ويدمّران ويقمعان هما نتيجة تكريس الذات لأهداف هي أصنام موت ويجب مواجهتها لأنّها تدمّر الإنسان؛ ولمواجهتها يجب تكريس النفس لأهداف بناء سياسة واقتصاد يعمّم المشاركة، أي لعبادة إله حياة بالفعل. لهذا كتب القدّيس بولس يوما، "إن كنتُ أتكلّم بألسنة الناس والملائكة، ولكن ليس لي محبّة، فقد صرت نحاسًا يطن أو صنجًا يرنّ. وإن كانت لي نبوّة، وأعلم جميع الأسرار وكلّ عِلم، وإن كان لي كلّ الإيمان حتى أنقل الجبال، ولكن ليس لي محبّة، فلستُ شيئا. وإن أطعمت كل أموالي، وإن سلّمت جسدي حتى أحترق، ولكن ليس لي محبّة، فلا أنتفع شيئا"، هذه الكلمات القديمة في الزمن ما تزال تكتسب كلّ ثوريّتها ووهجها عند مَن يتمعّن في ما يؤمن لكي يكرّس نفسه لإله حياة ولا يقع في عبادة إله موت. الإيمان وحده لا يكفي وإن دفع الإنسان إلى تكريس ذاته وبَذلها، السؤال الأساس هو لأيّ هدف يكرّس ويبذل الإنسان نفسه، إلى أيّ «إله» ينحني؟ ولطالما كانت يقظة القلب والعقل مطلوبتان خاصّة في أوساط الذين يعتقدون أنّهم يؤمنون بالله. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |