خريستو المرّ – الثلاثاء ٢ أيّار/مايو ٢٠٢٣
إلى ر. ف. يدافع كاتب هذه السطور عن تكامل حقّ الإنسان بحرّية التعبير مضبوطة بقوانين تمنع انحرافها نحو تدمير الحياة (حياة الناس أو الطبيعة)، مع حقّ الإنسان بالعيش الكريم أي حقّه بالطعام والشراب والإقامة والطبابة والتعليم، فهذه الأخيرة ليست امتيازات للبعض دون الآخر، بل حقوق إنسانيّة يجب على الدول تأمينها للجميع وإلّا فقدت الدولة معنى وجودها، ومعنى وجودها بالنسبة للعين الإيمانيّة هو أن تكون الدولة مساحة كي ينمو الإنسان إلى ملء إمكاناته. من هنا، ضرورة مناهضة الأنظمة والفلسفات والطروحات التي تضرب أحد طرفي هذه المعادلة: حرّية التعبير والكرامة البشريّة. لا يمكن أن يتصالح الإنسان مع قمع أو تهميش. لكنّ القمع والتهميش هما العملة الرائجة في أوطاننا المفروضة علينا بحكم الاستعمار على مساحة المدى العربيّ. لبنان ما يزال يحتمل هامشا متناقصًا من حرّية التعبير، ولكنّه غارق منذ تأسيسه في سياسات تهميش الناس حيث لا أمان اقتصاديّ ولا اجتماعيّ، أمّا البلاد العربيّة الأخرى فهي غارقة في الاثنين معا: قمع وتهميش، فحيث يشتدّ القمع ويتعاظم يشتدّ التهميش الاقتصاديّ الاجتماعيّ (دول الخليج ليست استثناء، فالمواطنون الفقراء موجودون فيها رغم المداخيل الهائلة للدولة)، وفي هذا يتساوى القمعيّون المطبّعون مع الكيان الصهيونيّ الإرهابيّ كما وأولئك الذين لم يطبّعوا معه. تتساوى تجربة القمع في جسد المقموع مهما كان موقف القامع من دولة الاحتلال، ولا يستقيم طلب التحرّر من قامع وحشيّ خارجيّ والقبول بقامع وحشيّ داخليّ. أمّا لبنان فيتابع توجّهه نحو المزيد من كمّ الأفواه، نحو المزيد من تشابه الأنظمة. هناك مقاربتان سياسيّتان للأنظمة العربيّة، واحدة تتكلّم فقط عن ضرورة الحرّية وتنسى أنّ غياب الكرامة والقدرة على تحقيق الحاجات الإنسانيّة يُفَرِّغُ الحرّية الشكليّة، الموجودة في بلد كلبنان مثلاً، من مضمونها، فماذا يصنع الإنسان بحرّية تعبيره أمام مائدة طعام فارغة وصحّة معتلّة؟ هذه المقاربة التي لا ترى الحاجات الإنسانيّة ولا تعطيها الأولويّة، تنسى في الآن عينه أنّ غياب هذه الحاجات هو وليد النهب الداخليّ المتعاون مع النهب الخارجيّ لمقدّرات البلاد، وأنّ القمع نفسه هو مدعوم ومطلوب من قوى الاستعمار الخارجيّ. أمّا المقاربة الأخرى، فلا تتكلّم عن الحرّية وتشدّد على تحقيق الحاجات الإنسانيّة، وتكتفي بذلك. وهذا لا يجوز، فالحيوانات نفسها تحقّق الطعام والشراب وما شاكل. دون حرّية الكرامة الإنسانيّة شاحبة باهتة لا حياة فيها. لا يوجد حياة في العيش المحض. كما أنّهم ينسون أنّ الحاجات الأساس أصلا غير متوفّرة حتّى في ظلّ غياب الحرّية. المطبّعون يتصالحون مع غير المطبّعين، ودولة الاحتلال تُستخدم وسيلة للبعض وعذرًا للبعض الآخر لكمّ الأفواه ونهب الثروات، ووسيلة لصمّ الآذان أمام صراخ المساكين، فالأولويّة للأشياء «الكبيرة» في التاريخ، وللرؤى العابرة للحاجات الملحّة، كما توحي الكتابات العابقة بالسياسة والاقتصاد والدروس والعِبَر التاريخيّة في الصحف. لا ينتبه هؤلاء أنّ التاريخ أيضا يدلّنا أنّه باسم تحرير الإنسانيّة سحق النظام السوفياتيّ الإنسان الملموس بتغييب حرّيته، وأنّه باسم الحرّية الإنسانيّة يسحق النظام الرأسماليّ الإنسان الملموس بتغييب تحقيق حاجاته. لا شيء أكثر أهمّية من الإنسان الملموس. ونحن في بلادنا باسم ألف شعار وقضيّة نسحق الإنسان الملموس ونطلب تأجيل الحياة بحرّية وكرامة إلى ما لا نهاية. الإيمان لا يمكنه المصالحة مع هذا التوجّه في العالم العربيّ، لا الآن ولا في المستقبل، قد يصمت المؤمن والمؤمنة أمام الخوف المتراكم أكانوا مسؤولين دينيّين أم لم يكونوا، ولكنّ كلام الانجيل سيبقى يهتك الصمت المترامي: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، ولا هو يحيا بالحرّية وحدها، وعندما يُخَيّرَ الإنسان بين الاثنين تدعو المجتمعات بطلاتها وأبطالها أولئك الذين اختاروا الحرّيةَ على الخبز (الأسير خضر عدنان مثالًا)، ولكن الأصل هو الجمع بين الاثنين ملكوت الخبز وملكوت الحرّية. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |