خريستو المرّ – الاثنين ١ أيّار/مايو ٢٠٢٣
بعض التعليم الديني المسيحي التقليدي غير سليم من وجهة نظر مسيحية. لو أخذنا التعليم الديني التقليدي (وهو تلقيني بمعظمه) لسمعنا شيئاً يشبه التالي: المهم في المسيحية هي الحياة الروحية وليست الماديات، ولذلك يعمل الانسان لليوم الأخير، يوم القيامة، وذلك بأن يكون إنسانًا مُحِبّا، أي إنسانًا لا يؤذي غيره من الناس، بل يساعدهم. بحسب هذه النظرة اليوم الأخير هو أمر منفصل عن اليوم الحالي، والامور "المادية" غير ذات اعتبار أمام الأمور "الروحيّة"، والإنسان مسؤول أمام الله عن علاقاته الفردية فقط. لكن مَن يصغي بشكل جدّي لما يقوله يسوع، وإلى المعاني والعقائد التي صيغت حول كلامه، لرأى أنّ هذا التعليم المنتشر يتعارض مع الإيمان المسيحي. فبحسب هذا الإيمان يسوع هو كلمة الله المتجسّد، وبدخول الله التاريخ البشري على مصراعيه من خلال تجسّد كلمته-يسوع، ثمّ موت يسوع، وقيامته، وصعوده، يكون الله قد كرّم المادة وقدّسها بضمّها إليه بكلمته المتجسّد، بشكل نهائيّ جذريّ، حيث صارت المادّة المتقدّسة في "قلب" الألوهة. التعليم التقليديّ هو أقرب منه إلى الفكرة الأفلاطونية الثنائيّة عن الروح المكرّمة والمادة المحتَقَرة؛ أو إلى تلك الفكرة المانويّة القائلة بالصراع بين عالم روحي خيّر وعالم مادي شرّير، منه إلى المسيحيّة. الحياة الروحيّة في المسيحيّة هي الحياة كلّها مُعاشة بهداية الروح القدس. أمّا اليوم الأخير فهو ليس شيئا منفصلا عن اليوم الحاضر، بل هو تتويج له. يسوع ذكر تلك الجملة المتناقضة بأنّه "تأتي ساعة [ساعة اليوم الأخير] وهي اليوم حاضرة". وهذا يعني أن اليوم الأخير كامنّ في حركة اليوم الحاضر نحو ملء نتوق إليه. وهذا الملء تعكسه الصلاة التي طلب يسوع من أتباعه أن يصلّوها في تلك الجملة القائلة "لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض"؛ فمشيئة الله من كرامة وعدل ورحمة وسلام ومحبّة وحرّية وغير ذلك، يمكنها أن تكون على الأرض بواسطة الإنسان الذي يعمل كي تتحقّق مشيئة الله بأن تتحوّل هذه الأرض لتشبه السماء، أي لتتجسّد فيها المحبّة والحرّية والرحمة والعدل والكرامة والسلام. لكنّ أمورٌ مثل الكرامة والحرّية والعدل والرحمة والمحبة ليست أمورا تخصّ العلاقات الفرديّة فقط، بل لها أبعاد جماعيّة أيضًا إذ يجب أن تتحقّق هذه في العلاقات التي تجمع الناس بعضها ببعض داخل دولة؛ ولكنّ هذا غير ممكن إلّا بالتعاون الجماعيّ بين الناس لفرض سياسات وقوانين تحقّق العدل والكرامة (طبابة وتعليم مجاني للجميع…) والحرّية والرحمة وما إلى ذلك، أي لفرض سياسات وقوانين تجسّد المحبّة في البُنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية. العقل والقلب معًا يفرضان علينا أن نتجاوز نظرة ضيّقة للمسيحية لا ترى فيها إلّا البعد الفرديّ، نظرة تدفع كي يستقيل الإنسان من مسؤوليّته عن الجماعة البشريّة، عن العمل في الحقل العام، فيكون بذلك شريكًا لقوى الشرّ بسبب انسحابه أمامها دون القيام بعمل فاعل لدحرها وتأسيس البنى التي تساهم بتحقيق مشيئة الله على الأرض كما في السماء. من وجهة النظر هذه، يكون جميلا وجديدا أن نعيّد عيد العمّال بالتذكير بضرورة العمل الجماعي من أجل تجسيد مشيئة الله بتدمير سياسات استغلال الإنسان للإنسان وبناء سياسات مُشارَكة، فهذه تجعل المحبّة ملموسة في العلاقات الجماعيّة بين البشر، وتشهد للحقَ في اللحظة الحاضرة، وتجسّد تباشير اليوم الأخير في قلب هذا اليوم. بمثل هكذا رؤية إيمانيّة فكرية لاهوتية يمكن أن نحتفل يومًا بالمحبّة متجسّدة داخل البُنى في قلب الجماعة البشريّة، وإن لم يكن ذلك ممكنا خلال فترة حياتنا القصيرة فإنّ عملنا مع غيرنا على تأسيس هكذا بُنى وعيشها، يجعلنا نفرح ونعيّد بتجسيد الأخوّة في قلب هذا العالم المادّي، المُحتَضَن من محبّة الله، بتقاسمنا الآلام والأفراح والجمالات في قلب المأساة البشريّة. كلّ عام وأنتم بخير. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |