خريستو المرّ
الثلاثاء ١٠ أيّار / مايو ٢٠٢٢ مثلما وبّخ البابا فرنسيس الفذّ بطريرك روسيّا على ألّا يكون "صبي مساعد على مذبح بوتين" بسبب مواقفه المؤيّدة للحرب والتي يخون فيها مبادئ الإنجيل، وهو موقف مناسب لكلّ بطريرك خادم على مذبح البطش والاستغلال (أي الرأسماليّة المتوحّشة)، وينطبق على باباوات وكرادلة سابقين وقفوا خدمًا على مذبح ديكتاتوريّات أميركا اللاتينيّة والفليبّين؛ وقف البابا ذاته وقال أنّ "الناتو النابح على أبواب روسيّا" قد يكون هو من سهّل إشعال نيران هذه الحرب. لا شكّ أنّ عبارات البابا حادّة تجاه حلف الأطلسيّ ولا شكّ أنّها ديبلوماسيّة تعبّر باختصار عن مسؤوليّة حكومات الغرب الاستعماريّة عن نشوب هذه الحرب وعن استمرارها. لقد بدت الحرب قريبة من النهاية عندما صرّح الرئيس الأوكرانيّ الدمية أنّ الحلّ لا بدّ أن يتضمّن حياد أوكرانيا (مَن يذكر موقفه في ٢٨ أذار؟) والذي سرعان ما لم يعد مطروحًا (أقلّه في الإعلام) بقدرة قادر. سيحارب الأوكرانيّون لأنّ ردّة فعل أيّ إنسان هو الدفاع عن نفسه عندما يُهاجَم، وستحارب الحكومة الأميركيّة حتّى آخر أوكرانيّ، فهي أعلنت مع البلدان الأوروبيّ الصاغرة أنّ الحرب هذه طويلة، وهو ما يناسب مصالح الولايات المتّحدة، ولكن فلننسَ المؤجّج الأكبر للحرب هذه (وحول العالم) ولنركّز على بوتين فهو ديكتاتور، والديكتاتوريّون هدف أسهل من الديموقراطيّين الذين يغسلون الدماء عن أياديهم بالدعايات الإعلاميّة المسمّاة «أخبارًا» تلفزيونيّة. نحن البشر الذين لا نتابع تفاصيل السياسات العالميّة كالمتخصّصين فاتنا أنّ حلف الأطلسي «نبح» كثيرًا على أبواب موسكو ولسنوات طويلة وأنّ بوتين لم يقف موقفا عدائيّا من الغرب، بل أنّه سعى إلى عضويّة حلف شمال الأطلسيّ. لكنّ الحلف أعلن مرارًا رغبته في وضع صواريخ في أوروبا الشرقية في مخالفة لمعاهدة بين الحلف وروسيا موقّعة عام 1997. أمّا الولايات المتّحدة فانسحبت عام 2001 من معاهدة الحدّ من انتشار الصواريخ الباليستيّة، ثمّ ضغطت لقبول عضوية جورجيا وأوكرانيا في «الناتو»، فما كان من روسيّا إلّا أن ردّت بحرب في جورجيا عام 2008. بعدها وفي عام 2010، أتى الانقلاب الذي قادته أميركا على انتخاب ديموقراطيّ في أوكرانيا إشارةً أخرى لرغبة حلف الأطلسي بمتابعة توسّعه وفرض أجندته، فما كان من روسيا إلّا أن ردّت عام 2014 بخرق القوانين الدوليّة وفرض هيمنتها على القرم. وقّع الجميع على معاهدة مينسك 2014 التي دعت إلى حلّ وضع منطقة الدونباس التي تمّ التنكيل بسكّانها، بإعطائها حكماً ذاتياً، لكنّ المعاهدة لم تُطَبَّق وبقي قصف المدنيّين مستمرّا دون كلمة واحدة من حكومات الغرب الطيّبة الكارهة لقصف المدنيّين. وأمام جمود ألمانيا وفرنسا الراعيتَين للاتّفاق، سعت روسيا للتفاوض مع الولايات المتّحدة، لكنّ الأخيرة انسحبت عام 2019 من معاهدة التخلّي عن الأسلحة النوويّة التي يبلغ مداها بين 500 و550 كلم. وانتهى الأمر، في حزيران 2021، برفض القادة الأوروبيّين من ناحية المبدأ الجلوس مع بوتين في قمّة بوتين ــــ بايدن حول لجم التسلّح النوويّ؛ فـمبدؤهم يقتضي عناق الديكتاتوريين من الأصدقاء فقط. وأخيرًا، يفيدنا الخبير العسكري السويسري جاك بو (Jacques Baud) الذي خدم في حلف الأطلسي، أنّ معلومات الحلف تقول أنّ الحرب في أوكرانيا لم تبدأ يوم أعلن بوتين بدء اجتياحه يوم ٢٤ شباط ٢٠٢٢، بل في ١٦ شباط ٢٠٢٢، عندما بدأت القوّات المسلّحة الأوكرانيّة قصفا واسعا متصاعدا تحضيرًا لاجتياح منطقة الدونباس، وهو ما كان يعلم به العسكريّون والحكومات، لا نحن. ما يغيب عن الصحفيّين والمثقّفين الذين ينتقدون موسكو هو النقد الأكثر ضرورة لسياسات حكومات «الغرب» الاستعماريّة المتواصلة والتي تتّبع تدميرا ممنهجا للكوكب، هذه الحكومات التي لا تمانع أن تتحالف مع الديكتاتوريّين حول العالم طالما هم يسمحون بنهب موارد بلادهم ويتّبعون سياساتها. لكنّ أقلام المحقّين بنقدهم لسياسات الكرملين لا تنتبه لسحق الشعوب لأنّه يتمّ بهدوء وبرويّة ودون جلبة أحيانا كثيرة، ولأنّ وسائل الإعلام الغربيّة الشهيرة حاضرة دائما لغسل دماء الأبرياء عن خريطة بلاد الديموقراطيّات السعيدة، ولإخفاء صوت العظام المتكسّرة بأناشيد الحرّية عندما تضطرّ حكومات الغرب الديموقراطيّة الطيّبة لاجتياح بلد أو لتلزيم اجتياح بلد (اليمن، ليبيا). الإخلاص للإنجيل الذي يطوّب صانعات وصانعي السلام بانّهم بنات وأبناء الله يُدعون، يقتضي أن يهتمّ الإنسان بنقد مَن يقوم الحرب وألّا يُهمل مَن يشعلها، وهذا ما كتبته منذ بداية هذه الحرب اللعينة. إن لم يعِ المثقّفون الأصيلون المناضلون في مجتمعاتهم الغربيّة لأجل الحقّ أنّ سياسات حكوماتهم الديموقراطيّة بالذات، وليس فقط تلك الديكتاتوريّة، قد تودي بالعالم إلى الهلاك، وإن لم تفهم أنّ ما من بلد أو شعب حيّ يقبل بأن يُحاصَر، وأنّ للدول الأخرى مصالحها أيضًا، فإنّ جبروتها سيصل إلى خواتمه: وبالٌ علينا جميعا في حرب عالميّة جديدة لن يسلم منها أحد. ندائي للأصدقاء والصديقات الساكنين في بلاد الغرب السعيد أن يرفعوا صوتهم ضدّ حكوماتهم كما رفعوها ضدّ بوتين، لأنّ تلك الحكومات تأخذهم وتأخذنا إلى الهلاك في حربها لفرض مصالحها وسيطرتها على الكوكب بأسره؛ هي تفعل ذلك الآن روسيّا من خلال أوكرانيا، والرئيس الأميركيّ الديموقراطيّ الطيّب بدأ عهده بتوتّر يعد ربّما بحرب مع الصين التي لا تملك إلّا قاعدة عسكريّة واحد خارج أراضيها (مثلها مثل روسيّا)، بعدما أعلنها "تهديدا" لبلاده التي تملك ما يناهز ٨٠٠ قاعدة عسكريّة في ٨٠ بلدًا حول العالم. إنّنا نشاهد اليوم كيف يسير العالم إلى حرب عالميّة وهو يهلّل للمبادئ السامية، والمثقّفون يشاركون في ذلك إن لم ينتقدوا حكوماتهم. يمكن وقف هذه الجنازة إن ساءَلَ المثقّفون حكوماتهم الديموقراطيّة (التي لا تتردّد في قمع الأصوات المعارضة، وجوليان أسّناج خير مَن يشهد) عن سياساتها الخطرة تجاه الحرب في أوكرانيا، وطالبوها أن تتّخذ مواقف أكثر عقلانيّة وأقلّ تهوّرا. الداعين إلى السلام يجب أن يسعوا إلى لجم هذا الكلب، هذه هي الخلاصة الانجيليّة لكلام البابا. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |