خريستو المرّ – الثلاثاء ٢٥ نيسان/أبريل ٢٠٢٣
الإنسان دائم التوتّر بين التقليد والتجديد. في العلوم الموضوع سهل إلى حدّ كبير في عصرنا، ذلك أنّ الأدوات العلميّة تعطي الباحثين مجالا للتحقّق من نظريّة أو نتيجة، ورغم ذلك فقد تحتدّ الخلافات عند كلّ مقاربة جديدة. أمّا في التقليد الدينيّ فالموضوع أصعب لأنّ لا أدوات للتحقّق من تفسير أو تعليم. لكن يبدو لنا أنّ هناك مجالين مفتوحين للتجديد، الأوّل مدفوع بالتغيّرات الاجتماعيّة والثاني مدفوع بالتغيّرات العلميّة. المجال الأوّل لتجديد الفكر الدينيّ يُطرَح بحدّة عندما نصل إلى نقطة تعارض بين ما هو مقبول ومرفوض من تصرّفات وقوانين من وجهة نظر التفسير الدينيّ، مع التغيّرات الحتميّة الطارئة في كلّ عصر على العلاقات الاجتماعيّة، والفكر والمبادئ الإنسانيّين. مثالنا في ذلك، أسباب الزواج والطلاق (علاقتها بالعنف المنزليّ مثلًا)، وأحكام الحضانة، وعلاقة المؤسّسة الدينيّة بالدولة، وغير ذلك. أمّا المجال الثاني لتجيد الفكر الدينيّ فينفتح تحت وقع معطيات العلوم عندما يثبت بطلان التفسيرات الدينيّة عند مقابلتها بالمعطيات العلميّة الجديدة. مثالنا على ذلك، تحدّيات علوم الحياة التي اضطرّتنا للتفكّر في أخلاقيّاتها (التلقيح الصناعي، مثلًا)، ومعرفتنا المثبتة بأنّ الكون لم يتكوّن في سبعة أيّام التي تضطرّ أيّ عاقل لمحاولة تفسير قصّة الخلق الدينيّة في الديانات الابراهيميّة تفسيرًا رمزيّا، والبحوث التي تحسم اليوم بأنّ هذه القصّة المكتوبة في الفصول الأربع الأولى من العهد القديم كُتِبَت على مرحلتين، واحدة يُرَجَّح أنّها كُتِبَت في القرن العاشر قبل الميلاد (تكوين ٢: ٤ب إلى ٤: ٢٦) والثانية في القرن الخامس قبل الميلاد (تكوين ١:١ إلى ٢: ٤أ)، ثمّ جُمِعَت القصّتين في قصّة واحدة في كتاب التكوين. ومن المعروف أيضًا أنّ القصّة كُتبت بقالب أسطوريّ، فالأسطورة كانت لغة تلك الأزمنة لتفسير الوجود. بالطبع المعنى من تلك القصص الرمزيّة (وجود الإله الخالق، مثلًا) يبقى موضوعًا إيمانيّا، وليس للعلوم أن تقول بصحّته أو عدم صحّته لأنّه ليس مجالها أصلا إذ لا شأن لها بتفسير معنى الوجود وإنّما بتفسير الوجود نفسه. لكنّ إعادة النظر الحتميّة والضروريّة في المجالين اللذين ذكرناهما شبه غائبَين عن المؤسّسات الدينيّة في بلادنا. هذا يعود لعوامل متعدّدة، مثل الربح الماليّ (موضوع الزواج المدنيّ مرتبط بشكل مباشر بالمال)، وكون المؤسّسات تُدار من رجال وبالتالي تبقى قاصرةً عن استشراف المتغيّرات من وجهة نظر النساء (مثلا، في الزواج والطلاق والحضانة والعنف الأسريّ) كما أنّه من المعروف أنّ المستفيد من نظام ما لا يغيّره دون ضغط خارجيّ من المجتمع. ولكن لا بدّ أيضا للإشارة إلى عاملين آخرين يمنع المؤسّسة الدينيّة من دراسة أثر التبدّلات العلميّة على التفسير الدينيّ للأمور: هما الخوف من التغيير والكسل. قد نظنّ أنّها غياب الرؤية، ولكنّ الرؤية لا تغيب إلّا عن خوف أو كسل، فالأسئلة مطروحة على الطرقات (بالإذن من الجاحظ) وتحتاج لإجابات. وقد يعذر المسؤولون أنفسهم قائلين أنّ العلوم متغيّرة دائما وبالتالي من الصعب بناء تفسير جديد على أساس معطيات تتبدّل دائما؛ وهذا مردودٌ لأنّ من واجب جميع المؤمنين، وخاصّة القائمين في مواقع المسؤوليّة، تقديم تفسيرات آنيّة للرؤية الإيمانيّة الواسعة، تفسيرات متناسبة مع الحياة المعاصرة حتّى لا يعيش المؤمنين حياتهم الأرضيّة القصيرة في توتّر بين ما يعرفون أنّه خطأ وبين التفسيرات القديمة، لأنّهم إمّا سيتركون الدين، أو يخالفون العقل في الحيّز العلميّ وهو حيّز العقل، أو يعيشون في توتّر مؤلم لا لزوم له بين أمرين متضاربين في الظاهر. اليوم مثلاً، لا يمكن لرجل دين عاقل أن يقول بأنّ الله خلق العالم في سبعة أيّام لأنّه يكون يخرج عن معطيات العلوم (أعلم أنّ الكثيرين يفعلون ذلك بحماسة ظانّين أنّهم يقدّمون شهادة عن إيمان «عظيم»، وكأنّ الإيمان بالله يجب أن يتضارب مع العقل كي يكون «عظيماً»). هل بالفعل كان هناك أوّل كائنين بشريّين، اسمهما آدم (والكلمة تعني أرض) وحوّاء (والكلمة تعني حياة)، نبتا فجأة في العالم؟ أيضا لا يمكن لعاقل أن يقول بذلك، فنحن نعرف نشأة العالم وتطوّر وجودنا من ذرّات، إلى نشوء خليّة حياة، إلى كلّ هذا العالم المتنوّع اليوم. بالطبع، ترى المؤمنة والمؤمن أنّ الله وراء هذا التطوّر، ولكن لا لزوم للتمسّك بأنّ هناك «كوبل» أوّل نشأ في لحظة. إذن هي قصّة رمزيّة؟ يعترف بذلك كلّ رجال الدين المسيحيّين واللاهوتيّين الذين إمّا التقيتهم في حياتي أو قرأت لهم، ولكنّهم يختلفون في أمر واحد: طالما هي قصّة رمزيّة فإنّ وجود «كوبل» أوّل كان في مكان كامل، في جنّة، ثم «سقط» إلى هذا العالم رمزيّة؟ هنا تتلعثم الأكثريّة الساحقة من المعبّرين عن الفكر الدينيّ المسيحيّ في عصرنا، فطالما ليس من دليل علميّ (ولن يكون يومًا في موضوع هو خارج حدود العلم) على أنّ «السقوط» لم يحصل، يتوقّف عقل هؤلاء عن العمل، ولا يجرؤون على القول ببساطة مع اللاهوتيّ كوستي بندلي، أنّ فكرة السقوط رمزيّة أيضا فكلّ النصّ رمزيّ، فما «السقوط» إلّا سقوطٌ عن وضع يشتهيه الإنسان أن يتحقّق، وليس عن ماضٍ سحيق كان محقّقًا. يخشون هذا التفسير لأنّ هناك إجماع بين القدّيسين، وفي الفكر الدينيّ الذي صاغوه حتّى عصرنا هذا، على اعتبار «السقوط» أمرًا واقعًا رغم قبولهم (بصعوبة) بالمعطيات العلميّة الجديدة حول الكون والتطوّر. التفسير المطروح لا يبدّل شيئا من دستور الإيمان ومن اللاهوت عامّة، ولكنّهم لا يجرؤون كما تجرّأ القدّيسون الأوّلون، لأنّهم حوّلوا أولئك القدّيسين وكلماتهم إلى أصنام تُعبَد لا أمثلة تُحتّذى في الشجاعة والإبداع. لا يمكن إبداع تعبيرات دينيّة تترجم المبادئ الإيمانيّة بلغة العصر الحاضر إلّا بتجاوز الخوف والكسل، والتمسّك بحقائق المعرفة البشريّة، والتحلّي بشجاعة وإيمان الأوّلين لمتابعة مغامرتهم الجميلة في التنقيب عن النور الإلهيّ في هذا العالم بالعقل والقلب معًا. الإخلاص لروح التقليد نفسه يتطلّب ذلك. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |