خريستو المرّ
الأربعاء ١٥ آذار/مارس ٢٠٢٣ كانت أمّه تقبّله - أو ربّما لانشغالاتها لم تكن تقبّله وإنّما هو يضيف إلى الذاكرة - وتعطيه قطعا معدنيّة بسيطة ليشتري شيئا ما في المدرسة. لكنّه لم يكن يعرف مسافة بين عينيه وعينين حزينتين أمامه؛ وهو لم يكن يفكّر حتّى، إذ كان يجهل مسافة التردّد بين القلب والعقل فكان فقط يحيا، ولهذا كان يُخرجُ، عفويًّا، بيده الصغيرة من جيبه القروش تلك ويعطيها للمرأة الحزينة الواقفة أمام باب المدرسة الضيّق، ثمّ يدخل المدرسة وينسى. وكانت المرأة تقف يوميّا أمام الباب خاليةً من أيّ ملمح من ملامح عصر لبنان «الذهبي». استمرّ الأمر لوقت طويل قبل أن تكشف أمّه فعلته تلك. يذكر أيضًا أمورًا «سحريّة» لم تكن تعجبه؛ منها، مثلًا، أنّ قدميه الصغيرتين كانتا تستطيعان ملامسة الأرض بينما هما داخل حذائه! «سحرٌ» هو الآخر لا يعرف «ذهب» لبنان. وإذ كان يؤلمه السحرُ ذاك، كان يخبر أمّه فترافقه إلى الإسكافيّ لترميم الحذاء المثقوب. الشتاء لم يكن سهلا، إذ كانت المسافة بين الجوارب والماء معدومة من وقت الخروج من المنزل ذهابًا إلى المدرسة حتّى العودة بعد يوم طويل بارد. لاحقا، على مسافة بضعة سنين، بات يافعا وككلّ يافع كان يخشى المجهول، فتحصّن لوقت استطال بالمسافة الفاصلة بين الناس. كان يخشى فم المسافة الفاغر بين أنا والآخرين وهو ينمو إلى ملءٍ لا يعرفه. ثمّ أشارت جارة، عرف لاحقا أنّها كانت ملاكًا مرسَلا من السماء، أشارت إلى طريق، إلى شيء يشبه مسافة تتّسع للجميع، قالوا إنّ الطريق «حركة» والحركة طريق، فتعجّب تجاوز الخشية ومشى. المنقذ الأوّل من حصن المسافة كان جسر الصداقة الممتدّ تحت شمس الكلمة. فالصداقة جسرٌ يجمع جماعة إلى واحد، دون اختلاط ولا امتزاج. هناك تستقبل الوجوه بعضها بعضًا، تصغي، لا تُدين ولا تتأفّف من أخطاء الشباب وشرودهم أثناء تلمّسهم للملء. هناك لا تريد الوجوه شيئا لنفسها، هي تريد فقط أن نضحك معًا، ونبكي معًا ونفكّ معًا لغز الكلمات، والكلمات دائمًا جديدة، دائمًا راكضة أمام الوجوه، ونحن نلاحق الكلمات لنرى أنفسنا أجمل فنصنع الدنيا أحلى. وكانت الكلمة التي فوق الجسر تلد أبجديّة جديدة حاول الجميع أن يتعلّموها، وكانوا إذا تقاسموا ما تعلّموه غدا خبزًا. كنّا نقتات أبجديّة المحبّة، والمحبّة تجري أمامنا وتضحك، ونحن مجانين مجانين، نضحك ونركض ونرتاح ونأكل، وأحيانا نجد خمرةً في الطريق. قالوا إنّ الخمرة علامة فرح، عرفنا لاحقا أنّ صانعها قضى نحبه حرًّا لكثرة الحبّ، ولهذا نبعت خمرة من جنبه. قالوا إنّه قضى مطعونًا وللوقت خرج خمر وماء، ولكنّ الولد الذي غدا شابًا قال إنّ الطعنة لا تلد الخمرة، أنّ ما يلد الخمرة هو الحبّ، هو انعدام المسافة بين المحبّ والمحبوب، بين الكلمة والحياة، وأمّا الطعنة فنصيب مجانين الحبّ ولا تفعل سوى أن تثقب خابية القلب. وقال إنّ الجميع يجوعون إلى الحبّ، ولكنّ الحبّ كالريح لا يُعرَفُ موضعه، هو يُتَنَفَّسُ ولا يُقبَضُ عليه، وكالطريقٌ يُمشى ولا يؤكل، ومَن يرفض الطريق ويجعل من المسافة بين القلب والعقل وبين العين والعين طاولة طعامه يلتهمُ الوهمَ فيطعن المحبّين ويختنق. لكنّ الخمر في تمامها، تأتي من حرّيةٍ في تمامها، لهذا بعد خمرةِ الصداقة كان الحبّ هو الخمر العتيق. والحبّ أمرٌ ملتبِسٌ ولهذا يقرأه اثنان ويكتبانه ويقرآنه وقد يمحوانه ثمّ يكتبانه ويقرآنه ويكتبان ويقرآن... ليكتشفا إن كانا يجيدان النَظم معًا لكي يجعلا من حياتهما قصيدة تلقيها الملائكة أمام عرش الله. هل يجد كلّ حبيبين قصائدهما معلّقة على باب الأبديّة، أو ربّما مجنّحةً في قلب الله؟ «بالتأكيد» يقول الولد. والمحبُّ المسافر في الطريق لا يحتمل أن يجنح إنسانٌ تائهٌ إلى التهام حياة البشر. ولهذا يصارع المحبّون، يواجهون معًا فراغ الحبّ الذي يلتهم العالم بالاستغلال والحرب. قد ينجحون وقد يخفقون، وقد ينجحون ثمّ يخفقون، ولكنّهم لا يستسلمونَ إلى أن يعودَ العالم ولدًا لا يعرف مسافة بين العين والعين وبين القلب والفكر؛ لا يستسلمون إلى أن تنجذبَ القلوبُ إلى سحر اللقاء وفرح المشاركة وتتوقّفَ شعوذة المدينة التي تأكل أحذية الأولاد. ومن أجل كلّ ذلك، لا يتردّد المحبّون أن يمشوا الطريق إلى نهاياتها، حتّى إن كانت نهاياتُها خشبةً منصوبة خارج أسوار مدينة الالتهام، خشبة يصعدونها فرحين عالمين أنّهم إن مدّوا أيديهم عليها وطُعِنوا بحربة سيخرج خمرٌ وماء لمن يأتون بعدهم، وسيصبحون هم غيمةً على كتفي المسيح، فيعودون أولادًا ويعبرون خفافًا إلى ملكوت المحبّين. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |