خريستو المرّ
الثلاثاء ١٤ آذار ٢٠٢٣ لم نستطع كبشر خدمة حياة الجماعة البشريّة، وحياة الخليقة على هذا الكوكب، بالسلم. فكوننا خرجنا عبر العصور من طور التصرّف المحكوم بالغرائز، إلى ظهور الوعي والمسؤوليّة، لم تعد الغرائز هي ما يتحكّم بنا بشكل كامل كما الأمر في حالة الحيوان، بل دخل عناصر الوعي والتفكير وحرّية الخيار في التكوين الإنسانيّ. تفتّحت في إنسانيّتنا زهرة الحرّية، فصار لدينا مساحة خيار ذاتيّ حتّى في المواضيع الغريزيّة البحتة كالأكل والجنس. فأمام غريزة الأكل يمكننا اختيار الامتناع عن الطعام لسبب دينيّ أو سياسيّ، وأمام غريزة الجنس نختار الأشخاص الذين نمارس معهم الجنس، ومعهم نختار الأوقات والظروف والأوضاع. حرّية الخيار هذه هي التي تسمح لإنسان أو لمجموعة بأن يختاروا أن يحبّوا أو أن يظلموا، ويستغلّوا، ويؤذوا ويذلّوا ويقتلوا. لكنّ القتل أمر بالغ الصعوبة لدى الإنسان، ودليلنا على ذلك كمّ من الأبحاث في علوم النفس، والجهد الإعلاميّ الهائل الذي تبذله الحكومات لأقناع شعوبها بأنّ خيار الحرب «لا مفرّ منه» وأنّ قتل «الأعداء» عمل «خير». مع نموّ قدرة دماغنا على الفكر والتحليل والمنطق، أصبح أيضًا معرّضا للتوهّم. فقد يتوهّم الإنسان أن المشروع الذي ألتزم به هو مشروع خير، وأنّ معارضة مشروعه هو معارضة للخير، لا بل محاولة قتل لي ولجماعتي. هذا الوهم يحرّك فينا وسائل دفاع غريزيّة عن الحياة، فيغدو إنهاء حياة الآخر المعارض لمشروعي، خيرًا وضرورة للدفاع عن حياتي وحياة المجموعة التي أنتمي إليها. الحرب على أفغانستان والعراق شُنَّتا تحت غطاء الوهم هذا، وحروب الطوائف في لبنان خاضها المقاتلون (وليس القيادات) تحت غطاء هذا الوهم. هناك أيضا وهم الجشع. الجشع هو وهم القيادات السياسيّة والاقتصاديّة. الجشع يقف خلف الدفاع المستميت للقيادات السياسيّة والاقتصاديّة في إرساء سياسات تسحق شعوبا بأسرها عبر استغلالها. الحيوان يقتل للأكل، الجشعون يقتلون -ببطء عبر الاستغلال أو بسرعة عبر الحرب – لكي يجمعوا الثروات. الجشعون لديهم ما يكفيهم، ولكن لا يكتفون. لهذا فإنّ الجشع انحراف يوهم الإنسان أنّ تعاظم الثروة ضروريّ للحياة وهو ليس كذلك. فخلف وهم الجشع، وكلّ وهم آخر يسعى إلى السيطرة، هناك وهم التألّه بذاتنا. الامتلاك للمزيد من الثروة هو سعي لما تسمح به الثروة الأكبر، هو سعي للقدرة المطلقة. الجشع سعي لدفع العالم ليصبح كما يحلو للرغبة الشخصيّة أن يكون؛ أي في النهاية هو سعي لتحكّم مطلق. وبذلك هو شبيه بالديكتاتوريّة التي تسعى بدورها لتحكّم مطلق. التحكّم المطلق هو مخدّر الذين يريدون أن ينسوا الموت بأن يتوهّموا بأنّهم آلهة. الخوف من الموت هو القابع خلف الرغبة بالاستغلال وكما وبالتحكّم. إنّ السعي للقدرة المطلقة، أكان ذلك بالديكتاتوريّة أو بالاستغلال، هو سعي للهروب من الموت، من الهزيمة الحتميّة أمام الموت، وذلك بمحاولة هزم الآخرين وقتلهم إذا لزم الأمر، إذ بالقدرة شبه المطلقة يهرب الإنسان من العطب والموت من خلال تحويلهما من أمرين داخليّين يخضع لهما، إلى أمرين يذيقهما لغيره. إنّ مجموع هذه الأوهام الناتجة عن مساحة الحرّية البشريّة التي تجعلنا نتجاوز الغرائز البحتة إلى تصرّفات مدمّرة، هو ما يُفشِلُ إمكانيّة خدمة الحياة الجماعة البشريّة، والحياة عامّة على هذا الكوكب، بالسلم. لهذا فالصراع لا مفرّ منه، فبصمات الأوهام البشريّة واضحة إن تأمّلنا واقع أنظمة القهر في بلداننا، وواقع نظام الاحتلال والفصل العنصريّ في فلسطين. على الصعيد الشخصي، يمكن للتعاطف، والتمسّك بوجه الإنسان، وعضد المهمشين، والانتباه لميل القلب والعقل، كما والإيمان الشخصيّ بإله محبّ رحيم يستقبل الإنسان بعد الموت كأمّ حنون، من شأنه أن يساهم بمواجهة قلق الموت. لكنّ هذا لا يكفي، فهناك ضرورة قصوى لنضال لا هوادة فيه لدكّ بُنى القهر والاستغلال التي تربّي وعلى الأوهام وتسعى لاستتبابها. فهذا يعني عيشًا رسائل الأنبياء بالجسم والفكر والنفس وترجمةً لها في الحياة اليوميّة، الفرديّة والجماعيّة. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |