خريستو المرّ – الثلاثاء ٧ آ١ار / مارس ٢٠٢٣
الإيمان بالله، أو بألوهة ما، الذي على أساسه يبني البشر أديانهم، أي عقائدهم وطقوسهم، ينتج عنه رؤية للعالم ينطلق منها الناس لصياغة رؤى في الشأن العام وفي آفاق وأهداف عليا يرونها ضرورة لتحقيق إيمانهم: الخير المشترك مثلًا. هذا أمر يشترك فيه المؤمنون بالله مع المؤمنين بفلسفات دينيّة أو لا دينيّة، مهما كانت. ما من إيمان لا يُنتج رؤية للعالم وينتج من اختبار هذا العالم إلى حد ما. بالطبع الخير المشترك هو تفسير للإيمان وإسقاط له على الشأن العام، ولهذا يختلف المؤمنون من دين واحد في تفسيرهم لمقتضيات الإيمان في الشأن العام (والشأن الخاص حتّى). لكنّ الإيمان بالله يختلف عن الإيمان بفكر ما أو فلسف ما من ناحية أنّه يعتقد أنّ خطًّا معيّنًا في التصرّفات ضروريّ من أجل حياة أبديّة مفرحة بعد الموت. إن أردنا استعمال مصطلحات مثل الخطيئة والتوبة، فإنّ الخطيئة هي كلّ ما يعرقل الفرح في الحياة الآخرة، والتوبة هي كلّ عودة عن تلك التوجّهات. وجهة نظري تقول أنّ الخطيئة هي كلّ ما يعرقل عيش المحبّة في الحياة اليوميّة وأنّ المحبّة هي طريقة حياة مشاركة تحفظ وحدة الجماعة البشريّة في احترام لتمايز أفرادها. برأيي، هذا منسجم مع لبّ ما قالته المسيحيّة في صفائها عبر تعرّجات الزمن. لكن ما هو غير واضح في الإيمان - المسيحيّ أقلّه - أنّ هناك وجهين للخطيئة، وجه ذاتيّ ووجه عام. في وجهها الذاتيّ، الخطيئة هي فعل يبعد الإنسان عن الله قوامه إقدامه على خيارات وطريقة حياة تتضاءل معها قدرته على المحبّة. بالخطيئة ينحرف الإنسان عن المحبّة نحو التسلّط على الآخرين أو الخضوع لهم ضاربا التمايزَ الذروريّ للمحبّة بعرض الحائط؛ أو هو ينعزل عن الآخرين بشكل أنانيّ ضاربا الوحدة البشرّية الضروريّة للمحبّة بعرض الحائط. حينها يؤذي الإنسان ذاته دون أن يؤذي غيره وهذا شأنه؛ ولكن إن أذى غيره، دون إرادة ذلك الغير، فحينها يتدخّل المجتمع عبر القوانين ليضع حدّا للحرّية البشريّة في ضلالها، فيمنع العنف الأسريّ، واستغلال العامل، والتحرّش في العمل، والسرقة، والجريمة، وغير ذلك. أمّا إذا كان الموضوع لقاء أنانيّتين أو أكثر، يريدون أن يخطئوا معا، بحيث لا يكون هناك قسر لشخص لآخر فذلك يكون من نوع خطيئة إراديّة لأشخاص يلتقون على أهداف خاطئة من وجهة نظر دينيّة. وهنا، برأيي، حدود الدين. إذ على المؤمنين أن يتركوا الناس ترتكب خطاياها الإراديّة بحرّية لأنّ العلاقة مع الله في النهاية علاقة حرّة، لا يمكن لإنسان أن يجبر فيها أحدا، إذ أنّ الإكراه في الدين تزوير للوجود وإهانة للدين نفسه (للأسف رفض الطوائف للزواج المدنيّ هو إهانة للأديان لأنّ باسمها يُهان الإنسان وتُداس حرّية ضميره). وعندما نتذكّر أنّ البشر يختلفون في تحديدهم للخطيئة من عصر لعصر (العبوديّة كانت مقبولة كنسيّا أيام الامبرطوريّات، ولا يختلف مسيحيّان اليوم بأنّ استعباد الآخر خطيئة)، فذلك عليه أن يدفعنا أكثر للتمسّك بمبدأ ضرورة ترك البشر يخطئون بحرّية إرادتهم وأن تقتصر مواجهتنا لانحراف حرّيتهم بالكلام والنقاش ومعطيات العلوم. عدا الوجه الذاتيّ للخطيئة التي يجب احترام حدوثها باحترام إرادة مرتكبها، إن لم يكن يؤذي أحدًا أو يغصب إرادته، هناك وجه عام. الوجه العام للخطيئة ينعكس في أثر الخطيئة على المجتمع بأسره، وذلك يتجلّى بخطايا ذاتيّة لمجموعة من الناس تتّفق وتتعاون على الاستيلاء الأنانيّ على خيرات الأرض المشتركة بين البشر، وعلى السيطرة على الآخرين بالقهر والتعسّف أو بالدعاية والإعلام أو بكليهما، وإخضاعهم للاستغلال. تتجلّى خطايا تلك المجموعة الأنانيّة بآثارها المدمّرة على الصحّة الجسديّة والنفسيّة في المجتمع وعلى كرامة الناس صغارا وكبارا. هذا هو الوجه الجماعيّ العامّ للخطيئة الذاتيّة. عندها، نحن بالطبع في وضع مضاد للمحبّة، فهناك ضرب للوحدة البشريّة في المجتمع باستغلال أنانيّ للآخرين، وهذا الاستغلال باستخدامه الآخر وسيلة يضرب حتّى التمايز الإنسانيّ الذي يجعل من كلّ إنسان قيمة عليا مساوية للآخر وغاية بحدّ ذاته. هذا الوجه العامّ الجماعيّ للخطيئة منسيّ غالبًا، وبينما يتحمّس الناس ضدّ فرد أو جماعة تخالفهم القناعة في أمرٍ لا يؤذي أحدًا ولا يقهر إرادة أحد، يبقون غافلين عن التجسّد الملموس القاهر للخطيئة في الحياة الجماعيّة، عن تجسّد الخطيئة في السياسات الاقتصاديّة والتربويّة والاجتماعيّة التي تسحق البشر وتستخدمهم وسائل لأغراض أنانيّات فرديّة ملتقية على الاستغلال والاستبداد. الإيمان بالله يقتضي مواجهة الخطيئة في الذات لكي يستطيع الإنسان أن يحيا بطريقة عيش منسجمة مع المحبّة، واحترام انحراف إرادة الآخرين وعيشها طرق مخالفة للمحبّة حين لا تقهر تلك إرادة آخرين. ولكنّ الإيمان نفسه يقتضي في المقابل أن يواجه الناس إرادة الآخرين في ضلالها عن المحبّة في الحقل العام، أن يواجهوا بالقوّة وجه الخطيئة العامّ، بنضال لا يستكين ضدّ الإرادات المنعزلة الأنانيّة التي تجتمع مع بعضها لاستغلال الآخرين وإخضاعهم لمآربها الأنانيّة المدمّرة للآخرين. هذه الإرادات الأنانيّة قد لا تدخل الجنّة لانحرافها عن المحبّة وهذا يعود لحرّيتها، ولكن آثر تلك الحرّية المدمّر في الحقل العم ينبغي أن يواجه وأن يُغلَب. لا احترام لشعار أكان «مبادرة فرديّة» أو «نظام رأسماليّ» أو غيرها من الشعارات فهذه مجرّد غطاء لاستغلال مجموعة من الأنانيّات لمجتمع بأكمله. الرأسماليّة بالذات قائمة على الاستغلال كقيمة «مقبولة» و«منطقيّة»، وهذا مناهض حكما للمحبّة، ولذلك هي شرّ لا بدّ من مواجهته. احترام إرادة المخطئين في الشأن الذاتي غير القاهر، كما ومحاربة بُنى الخطيئة في والاجتماع والاقتصاد والسياسة والتربية، كلاهما واجب ينبع من إيمان بأنّ المحبّة هي ألف الإيمان وياؤه. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |