خريستو المرّ
الثلاثاء ٣١ كانون الثاني / يناير ٢٠٢٣ لم تكن الرياضيّات بين يديه مادة جدّية فحسب. فبوقاره، وقدرته على الشرح الواضح والمتسلسل، سربل الرياضيّات جمالًا: هندسة جمال الأشياء المبعثرة عندما تنجلي في جمبازٍ من الخطوات المنطقيّة السرّية؛ العلاقات السحريّة بين الأرقام، حيث المعروف منها يخبّئ اللامعروف؛ وتلك السين (x) الشهيرة؛ كلّها تناديك كي تكشف اللغز، وأنت تكون قد قرأت ألغاز «المغامرون الخمسة» في شمس الصيف فشحذت فيك الرغبة بفكّ المجهول. وهو في ردائه الأبيض أمام اللوح، يمدّ أمامنا الجسر بين اللامعرفة والمعرفة فوق هاويةٍ من القلق والغموض، ويمدّ إلينا يده وعقله كي نجتاز معه الهاوية. لم يكن يعرف، وربّما أنا نفسي لم أكن أعرف، أنّه كان كاهنًا للكتاب الوحيد الذي كتبه الله مباشرة: هذا الكون، وحكايات الجمال فيه، وحكايات السِحر الرياضيّ الذي يربط المادّة بالمادّة، ويربطها بالعقل، لتنجذب الروحُ فتجري وراء الحبيب كما تجري الأيلُ إلى جداول المياه بعد أن يكون جذبها العطش. لم يكن يعرف، ربّما، أنّه كان كاهن الكلمات التي خبّأها الله، في صفحات لا حصر لها، صِيَغًا رياضيّة نفكّ ألغازها واحدة بعد الأخرى، فنقرأها كما يقرأ المحبّ رسالة محبوب، رسالةً تأخذ بألبابنا لنلمح وراء الصيغ -إن شئنا- إلهًا فَرِحًا لفرحنا. لم يكن يعرف، ربّما، أنّه، وكهنة الرياضيّات الآخرون، قد سلّمنا مفاتيح الدهشة أمام هذا الكون؛ وأنّه بقي معهم رفيق الخطوة الأولى في قدس الفيزياء؛ وأنّ صوته المبحوح سيبقى في ذلك المعبد أيقونةً فريدةً تشير إلى التناسق الجميل. هو الأيقونة التي تردّك إلى التناغم الذي تفقده إذا ما بلغت قدس الأقداس، حيث النسبيّةُ، وحيث الجاذبيّة تقعّرٌ في قماشة الفضاء، وسرعة الضوء ثابت مستقيم لا ينعطف إلّا ليلاقي ثقبًا أسود، وفوضى الكمّ تعثّر أينشتاين، والتشابك بين الإلكترونات يشير إلى أنّها بالحقيقة يمكنها أن تعرف بحالة بعضها حتّى ولو عن بعد، وحيث، وحيث... ففي الدهشة، وحين تجتازك أسئلة الفوضى، والتبعثر، واللامعنى الذي يجتاز ذاك الجمال المنفجر من اللحظة الأولى والمرشّح للانقباض أو التلاشي، تعود أيقونة البساطة الأولى لرياضيّات المدرسة، تعود أيقونته، أيقونة جورج أرناؤوط في ردائه الأبيض، لتعيدك إلى ما سمعته بقلبك، ورأيته بعقلك، وما شاهدته، ولمسته بيديك، من جهة الكلمة الخبيئة خلف كلمات الرياضيّات. يناديك أساتذة الرياضيّات إلى الدهشة. يفتحون أمامك عالمًا ساحرا داخل هذا العالم. يدخلونك من باب سرّي إلى خلف مشهد المادة لتلامس بعقلك قلب هذا الكون، وتحسّ بقلبك نبضه، وترى ملامح من شاعرٍ سكب كلماته في كلّ شيء، سكبها في الكون وفيك، لتتخاطب كلماته فيما بينها، لكي تنجذب إلى بعضها البعض ولا تهدأ إلّا في اللقاء المحيي. هذا بعض ممّا أشار إليه جورج أرناؤوط، عَلِمَ أم لم يعلم، وسأحدّثه بهذا يومًا، في «لحظة» حرّة من الزمن، حين نلتقي أمام الكاتب الذي يلاعبنا بالدهشة والرغبة. قد يكون هذا النصّ علميّا، وقد يكون لاهوتيّا، وقد يكون أدبيّا، ولكن ماذا تفعل بنفسك بعد أن تكون سمعت كلامًا كثيرًا من الفرح والجمال، وشاهدته في الحبّ المجروح بالشوك، واكتشفت في ارتجاف النجوم قصائد لا تنتهي؟ Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |