الثلاثاء 1 أيلول 2020
خريستو المرّ أمام الألم الكبير لا ينفع المنطق وحده. المنطق نستعمله في الحوار الهادئ لنقارب الحقيقة أو الحقّ، أي ما يخدم الحياة. أمام الألم الكبير الذي نشعر بأنّه أدنانا من شيء من الموت لا ينفع سوى الاحتضان، سوى التعاطف، سوى التعاضد الإنسانيّ. حينها يعرف المتألِّم أنّه ليس وحيدًا. فالموت الذي نخشاه بالفعل، ونحن على قيد الحياة، هو الوحدة. وعلى الرغم من كلّ الدعاية التي تقول بأنّ الإنسان ذئبُ الإنسان، والدعاية الرأسماليّة التي تقول بأنّ كلّ شيء يبدأ وينتهي بالأنانيّة وبالمصلحة، فقد أثبتنا كبشر مِرارًا وتكرارًا أنّنا في الأزمات والمصائب نتعاضد ونتعاطف وننظّم أنفسنا بشكل عفويّ لنتساعد. نحن مفطورون على المحبّة وهذا ما هو جليّ في الأزمات. ليست أزمة إنفجار بيروت المثل الوحيد عن ذلك، ففي أزمات مثلها تفاعل الناس بنفس الطريقة: إعصار كاترينا في الولايات المتّحدة، أو حتّى الحروب الأهليّة المليئة بأحداث التعاضد الإنسانيّ التي تبقى مهمّشة عادة في الإعلام الذي يلهو بأخبار الجرائم والمذابح بشكل شبه حصريّ. البشر جيّدون أكثر ممّا توحي به الأحداث المذهلة، هناك طيبة يوميّة خافتة، وطيبة واضحة تتجلّى عند المصائب. الأدلّة تحتاج إلى كتاب كتبه الأخصّائيّ النفسيّ جاك لوكمت "الطيبة الإنسانيّة". أمام الألم الساحق الذي نختبره، تفلت من أيدينا، لفترة قد تطول وقد تقصر، زمام الأمور. نكون، عند ذاك، نفسيًّا في وضع يشبه وضع الطفل أمام الحياة. الطفل لا يملك زمام الأمور، وهو يشعر بذلك، ولذلك يلجأ إلى أهله لمساعدته، لحضنه، لدعمه. فلا عجب عند المصائب، أن نلجأ إلى أقوى، إلى أب سماويّ لنقول له ساعدنا، إلى دولة أقوى نطلب حمايتها...إلخ. ويبدو لي، أنّه بسبب استعادة الوضع الطفوليّ هذا، ونتيجةً للتربية القاسية التي يتلقّاها معظمنا، نتلقّى المصيبة أيضا بوصفها قصاصًا، وكأنّنا أذنبنا، وكأنّ ما يحدث لنا هو قصاص على شيء ارتكبناه. هذا ما يفسّر، برأيي، سؤال: الـ"لماذا" الذي نطلقه في وجه الله أو الحياة. لماذا أنا؟ لماذا نحن؟ ماذا فعلنا؟ وعند اقتناعنا ببراءتنا، وهو الحال دائمًا عندما تكون المصيبة نتيجة إهمال آخرين أو نتيجة اعتباط الطبيعة، نطلق اللوم تجاه المسؤول الأوَّل: الله. بخاصّة أنّه يتّخذ في النفس والذهن، في المسيحيّة والإسلام، صورة الأب. وإن أضفنا إلى ذلك تربية دينيّة تقليديّة تجعل من الله مسبّب الأحداث كلّها، نصل إلى نتيجة كارثيّة: الله مسؤول عمّا يجري، ونحن لم نفعل شيئًا يستوجب هذه المصيبة. والنتيجة تكون إمّا انقلابًا على الله، ورفضًا له، أو كراهيّةً داخليًّةً مترافقةً مع قبول عقليّ واجتماعيّ مرير لصنمِ إلهٍ إرهابيّ كارثتنا معه أنّ لا هروب منه، ولا مواجهة ممكنة له. لا شكّ أنّ الإلحاد هو أكثر صحّة من هذا الوضع الإيمانيّ المنفصم. فالكذب المأزوم على الذات يعني عيشًا داخليًّا (روحيًّا ونفسيًّا) مريرًا. المرارة هي أن "تأكل الضربة" كما نقول شعبيًّا (أي نفسيًّا تجتاف القهر)، وأنت عالم بأنّه لا يمكنك شيء حيالها لا بل عليك أن تشكر من تظنّ أنّه ضربك وتعبده! هذا يعيشه الكثيرون مع زعماء هذه البلاد بشكل أقلّ سفورًا وأقلّ درامتيكيّة. ولا شكّ أنّ أقرب المتزلّفين إلى الزعماء هم أكثر من يكرههم. قضيّتي هنا هي العلاقة مع الله. برأيي، لن يمكننا أن ننقّي علاقتنا كبشر بالله إلّا إذا فهمنا أنّ الله ليس على كلّ شيء قدير، بعكس ما نقوله عادة. فاللهُ مثلًا غيرُ قادر على أن يجبرَنا أن نحبَّه كما قيل مرّة في الأدب الرهبانيّ. لماذا؟ لأنّ الله محبّة ويطلب من الإنسان الحبّ لا العبوديّة، والحبّ يقتضي حرّية الإنسان. لكي ننقّي علاقتنا بالله، علينا أن نعيد اكتشافنا لله، وننقّي علاقتنا به من الصور التقليديّة الفطريّة عنه، الله – بحسب ما كشف لنا يسوع – هو محبّة أي أنّه لا يفعل ما هو معاكس للمحبّة (التي لا نعرفها إلّا بمقاييسنا البشريّة على عطبها). المصائب هي نتيجةٌ طبيعيّة لكون هذا العالم مخلوقًا وبالتالي مضطربًا غير كامل (أعاصير، زلازل... إلخ)، ونتيجة طبيعيّة لكوننا مخلوقين أحرارًا (ولهذا عندنا قدرة على أن نحبّ كما على أن ندمّر ونخلق كوارثًا حتّى الطبيعيّة منها). هذا يفسّر المصائب كما هي من دون إلقاء اللوم على الله، كما بيّن اللاهوتيّ كوستي بندلي. هذا لن ينجّينا من الشعور بالترك، وبالضعف، وبالحزن، ولكنّه على الأقلّ ينجّينا من تشويه علاقتنا بالله؛ ينجّينا من اتّهام الله بما ليس فيه ثمّ القبول بوجوده على مضض في علاقة تحمل بصمات الساديّة-المازوشيّة؛ ينجّينا من لوم الله على مصائبنا ويدفعنا إلى تحمّل مسؤوليّاتنا. لكنّه لن ينجّينا من الحزن والألم. سنحزن ونشعر بالترك. المسيح نفسه، شعر بالترك العظيم على الصليب فصرخ "إلهي، إلهي لماذا تركتني"، مثلنا جميعنا في المصائب. لذا لا لوم على إنسان في ما يشعره. اللوم على الآخرين إن لم يحتضنوه، واللوم على الآخرين إن قدّموا له صورة إلهٍ قابعٍ وراء "إرسال" المصيبة، واللوم على الآخرين إن لاموه على شعوره بانكسار في كيانه وبحزن شديد. إن كان المسيح بجلاله أحسّ بالترك على حافّة الموت، فلا بأس إن أحسسنا بذلك، ولا لوم. فلنبكِ ولنصرخ ونسأل، ولنلم الله حتّى، فاللوم ولو عن خطأ مقبول بين المحبّين. أحيانًا، من كثرة المشاكل والمصائب، نشعر وكأنّ الله لا يريد لنا أن نكون سعداء، هذا شعور مفهوم، ولكن بعقلنا، يمكننا أن نميّز أنّه غير صحيح، كما قلنا سابقًا، ولربّما أمكننا أن نرى الأمور أوضح إن تذكّرنا بأنّ الكثير منّا يقولون بعد الضحك "الله ينجّينا". هذا لا بدّ يعود إلى التربية التي تلقّيناها، أكثر منه إلى الله. فعادة ما يلجأ الأهل بسبب ضيقهم إلى نَهْرِ الطفل أو حتّى ضربه لا لشيء إلّا لأنّه بسبب حاجته إلى اللعب يثير أصواتًا عالية، ويُكثر من الحركة، أو يضحك بصوت عالٍ. صراخ الأهل أو توبيخهم أو ضربهم (للأسف الشديد ما يزال الضرب متّبعا) يأتي بعد الضحك والفرح. يبدو لي أنّ هذا هو جذر الشعور الغامض الذي نشعره بعد الضحك بأنّ شيئًا سيّئًا قد يحدث. خبرة الطفولة مع الأهل هي السبب وليس الله. بالتأكيد الله يريدنا أن نفرح. الله محبّة ولا يصدر عنه إلّا أسباب الفرح. لكنّ الفرح لا يعني انتفاء الألم والحزن نهائيًّا، ولا يعني أنّنا لا نمرّ بمصائب وصعاب أسبابها الطبيعة أو حرّيتنا الإنسانيّة في انحرافاتها. حتّى في العالم الآخر لربّما سنختبر بطريقةٍ ما شيئًا من حزن وألم، من يحبُّ بصفاء يحزن ويتألّم إن أصرّ أحد من الناس على الكراهية فبقي بعد الموت أسير جحيم صنعه بنفسه. هناك آلام هي خبرة إنسانيّة مشتركة لا يمكن تجنّبها (مرض، موت محبوب)، وهناك آلام لا يجوز أن يمرّ فيها إنسان (تعنيف في الطفولة، تعذيب، خطف، عبوديّة جنسيّة، تعنيف نفسيّ وجسديّ للخادمات في المنازل، فقر يغلق باب الأمل) من مسؤوليّتنا -وليس من مسؤوليّة الله وحده- أن ننهيها. هنا والآن، صعاب استثنائيّة هائلة، لا ينفع معها سوى التعاضد الإنسانيّ والاحتضان، والعمل على تغيير الواقع لتزول أسباب المصائب التي يمكن أن تزول، أو تخفيف أثر المصائب التي لا يمكننا بعد السيطرة عليها. في كلّ ذلك هناك مرساة لقلوبنا وعقولنا: يسوع، عيناه، ويداه المثقوبتان اللتان من نافذتيهما نرى ملامح من وجه الله. الطفل يحبّ يسوع لأنّه يثق بأهله وهم يحبّون يسوع. لكن في المراهقة وبعدها لا يمكننا أن نحبّ يسوع بنضج إلّا إذا أحببناه شخصيًّا، من الداخل. عندئذٍ قد نحبّ يسوع لأنّه مثلنا، عاش مثلنا، ومات مثلنا، وفي عيشه وموته أحبّنا، وما قام إلاّ لأنّه كامل الحبّ. نحبّه لأنّه "هو أحبّنا أوّلًا" إلى درجة الجنون، إلى درجة أنّه أخلى ذاته من قدرته، إلى درجة أنّه أراد أن يتذوّق حياتنا وموتنا لنتذوّق حياته، وهذا أقصى ما يتمنّاه محبّ أمام حبيب موجوع، وأقصى ما يتمنّاه محبوب. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |