خريستو المرّ
الثلاثاء ٧ حزيران / يونيو ٢٠٢٢ يتساءل الإنسان - بينه وبين نفسه على الأقلّ – أن ما فائدة كلّ عملٍ عام في بلاد تحت حُكمٍ لا يتبدّل، أكان ديكتاتوريّا أو قبليًّا طائفيًّا؟ الجواب قد يأتي من وقائع علينا أن نسهر عليها دائمًا. الواقع الأوّل هو أنّ ما من شيء يدوم في الحياة، لا روما دامت ولا اليونان ولا غيرهما من الإمبراطوريات والاحتلالات، التغيير هو واقع طالما بقي الصراع حيًّا، قد لا يأتي التغيير خلال فترة امتداد حياة إنسانيّة واحدة (حوالي القرن بالأكثر) ولكنّه يأتي طالما بقي السعي. المطلوب هنا هو شيء من التواضع الشخصيّ أمام الأحداث، حتّى يقبل الإنسان بألّا يرى جهوده قد أثمرت بشكل ناجز خلال فترة حياته. إن لم يَقبل الإنسان أن يسهر على تواضعه فالنتيجة هي ما نلاحظه عند البعض من كآبة وسلبيّة وجبريّة وتبريٍر للانهزام والاستسلام أمام أعداء الأمس، ومن لهاث خلف الثروة التي يتوهّم البعض بأنّها تعطيهم قدرةً تعوّض عن شعورهم بالهزيمة، ومن استسلامٍ «للواقع» أحيانًا في انزواء عن الصراع ونقدٍ للمستمرّين فيه. أمّا الواقع الآخر فهو أنّ الإنسان مخلوق باحث عن معنى، وكباحث عن معنى لا يمكنه أن يكتفي بالأفعال التي يفعلها، على أهمّيتها، بل عليه أن يعطيها معنى لكي يكون قادرا على الاستمرار بها، ولكي تكتسب تلك الأفعال لديه أهمّية وتصبح جزءا من هويّته الشخصيّة. عندما تكون الأفعال مجرّد نتيجة لعادة اجتماعيّة أو لوجود جغرافيّ أو مرتبطة بسعي لتحقيق انتصار سريع أو شهرة أو ما شابه لا تتجذّر تلك الأفعال في الشخصيّة، وعندها يمكن أن يتوقّف الإنسان عن الأفعال تلك بتبدّل الظروف الخارجيّة (الجغرافيا، المجتمع) أو بسبب عدم تحقيق الأهداف (انتصار، شهرة). عندها عادة ما يتصرّف الإنسان بردّة فِعل الخائب الذي ينتقم من ماضيه بالانكباب على نقيضه، أو كلّ ما يظنّه تعويضًا عن ذاك «الفشل». من هنا تدخل كلّ الأوهام إلى القلب والفكر. أمّا مَن كانت أفعاله قد اكتسبت معنى لديه، فكانت مرتبطة برؤية للحياة وبمجموعة من المبادئ التي يرى الإنسان فيها معنى لحياته ولحياة كلّ إنسان، فإنّ التغيير في الظروف الخارجيّة أو عدم تحقيق الأهداف المرجوّة، يكون مدعاةً للمثابرة في التوجّه نفسه، وإعادة النظر بطرق العمل ضمن الإمكانيّات المتاحة في كلّ ظرف، والتعاون مع الغير، من أجل حماية وتثبيت مجموعة المبادئ وتسليمها لأجيال أخرى. والذي يدعوه الـمُنقَلبُ على مبادئه «فشلًا» يدعوه المثابرُ «ليس بعد». وحيث يسير الأوّل مسار الانقلاب بتدرّج، يُفاجَئُ الثاني بما يتفتّق في ذاته من طاقاتَ لا حصر لها تتفتّح عفويّا مشاعرَ وفكرًا وعملًا. بالنسبة للإنسان الذي يعطي لأعماله معنى، الأفعال ليست مجرّد أشياء انتهت وإنّما هي خطوات في طريقٍ، طريق مليئة بالوجوه الجميلة التي سبقته، والتي معه، والتي ستأتي بعده؛ ولذلك ليس هو بمعزول ولا بحالة ضعف، وإنّما مجرّد مُشاركٍ في ورشةٍ إنسانيّةٍ ليجمُلَ هذا العالم، ولذلك فمسعاه الأكبر هو أن تستمرّ تلك الورشة. الإيمان يشدّ ذلك كلّه إلى بعضه: إيمان ذلك الإنسان بأنّه قد مشى الطريق الصحيح. وهو قد يشكّ والشكّ جيّد فهو يغسل عين القلب وعين العقل، ولكنّه يبقى مؤمنًا بأنّ الإنسان دون هذا الطريق يصبح من عداد الأشياء، أي يخسر نفسه كإنسان. وتبقى كلمة المسيح -آمنّا به أم لم نؤمن - ترنّ في داخلنا: وماذا يفعل الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه أو فقدها. من خلاله هذا المنظور، يمكننا متابعة مواجهة الوقائع المؤلمة في الحقل العام التي تحدث حولنا في حياتنا. وعندها، وإلى حدّ كبير، لا يصبح لموتنا الكلمة الأخيرة، بل تصبح الكلمة الأخيرة للحياة التي وُهِبناها ووهبناها للعالم بمشاعرنا وفكرنا وعملنا. هذا كلّه، يذكّر بقول آخر للمسيح «مَن يؤمن بي فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضاً، ويعمل أعظم منها». فمن يؤمن بأنّ عالـمًا آخرَ ممكنٌ، بأنّ الإنسان مقدّس، يعملُ من أجل تكون الحياة وتكون أوفر، ولذلك هو رفيق طريق، رفيق يسوع-الطريق وكلمة الحياة، والسائرون في الطريق يسمعون بآذانهم، ويرون بعيونهم، ويلامسون بأيديهم، ويصنعون ويحيون كلَّ ما هو تجلٍّ لكلمة الحياة متابعين عمل يسوع في هذا العالم. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |