خريستو المرّ
الثلاثاء ١٤ حزيران / يونيو ٢٠٢٢ في بلادنا وغيرها، يتأفّف الناس من "الفساد"، والفقر، وتدنّي مستوى الدخل، والغلاء، ولكن لا يذكرون الأسباب القائمة وراء هذا الواقع ألا وهو بنية النظام القائم: الرأسماليّة. فكلمة " الرأسماليّة" باتت غير متداولة وكأنّها غير موجودة، بل أنّ الكثيرين -فقراء وأغنياء- ما يزالوا مسحورين بإنجازات الرأسماليّة بحيث باتوا يرون بها النظام الذي لا نظام إلّاه. الحقيقة أنّ الرأسماليّة لا تعمل دون استغلال، وأنّها تسلّع كلّ شيء، من الاختراعات، إلى الطبيعة، إلى الناس (فما معنى أن يُسمّى العُمّال "مُستَخدمون" سوى أنّهم يُستخدمون كأدوات في يد ربّ العمل؟). لكنّ الذين يحبّون الحرّية ليسوا حريصين جميعهم عليها في ظلّ جميع الأنظمة. فبينما ينتقد العاقلون محاصرة حرّية الناس في بلاد الديكتاتوريّات، يغفل معظمهم عن محاصرة الرأسماليّةِ لحريّةِ الناس وافتراسها لهم في الديموقراطيّات المتوحّشة. لا يعرف معظم المسيحيّين أنّه عدا المفكّرين الشيوعيّين والاشتراكيّين الفذّين، لاحظ مفكّرون عديدون مسيحيّون – وهم لم يكونوا مسحورين كما اليوم بالرأسماليّة ويمتنعون طوعا عن نقدها – بأنّ حرّية العمّال في ظلّ الديموقراطيّات الرأسماليّة في حرّية وهميّة وشكليّة: ما هي حرّية ٨٠٪ من سكّان لبنان القابعين تحت خطّ الفقر عندما بالكاد يستطيعون تأمين قوتهم اليوميّ؟ إنّ شخصًا يتربّص به الجوع أو المرض أو يرتع في الأمّية (نسبة الأمّية في العالم العربيّ حوالي ٤٠٪) لن يستطيع أكل بطاقته الإنتخابيّة، أو أن يتطبّب بها. إن واقعَي الاستغلال والفقر ليسا صدفة، أو نتيجة "طبيعيّة" لبلد أو منطقة، إنّهما نتيجة للرأسماليّة في كلّ الدول التي تدين بها. إلّا أنّ صحفيّ في جريدة النهار تفتّق فكره يومًا على وصف للفقر بأنّه "عاهة فظيعة" لإخفاء طبيعة الصراع الطبقيّ القائم في لبنان، هذا بينما كان ميشال شيحا، منظّر الاقتصاد اللبنانيّ، يرى أنّ الفقر هو من "القباحات" المرتبطة بالشرق، أي بالجغرافيا، وبيير الجميّل يرى أنّ المساواة الاجتماعيّة غير موجودة إلّا في الجنّة. والنتيجة أنّه لتحقيق المساواة أو لمواجهة الفقر (إلّا الصلاة ربّما). لا بدّ أن نتذكّر بأنّ المساواة في فرص التعلّم والتي تحقّقت بتأسيس الجامعة اللبنانيّة المجانيّة لم تحصل إلّا عنوةً، بعد سقوط ضحايا في تظاهرات، فطبقة الأغنياء التي حكمت لبنان كانت مرتاحة للفقراء دون تعليم. هناك شبه إيمان بالرأسماليّة يقوم على السجود لإله السوق، إيمان عقيدته تقول بأنّ الدولة لا يمكنها أن تدير مؤسّسات وأنّ الخصخصة والمنافسة هي طريقة الحياة "الطبيعيّة" للمجتمعات الانسانيّة، وأنّه يجب خفض نفقات الدولة الاجتماعيّة من تأمين صحّي ونظام تقاعد ونظام حماية من البطالة وتعليم مجاني، لأنّها تُضِرّ بالمنافسة وبالتحفيز على الإنتاج؛ فالبقاء «للأقوى و«الأذكى» بين الناس لأنّ هذه سنّة "الطبيعة" والتطوّر. ومن «ينجح» وسط هذه الداروينيّة الاجتماعيّة يكون قد تمّ انتقاءه «طبيعيّا» بحسب كفاءته وجدارته. لكنّنا نعلم أنّ الناس لا يبدأون حياتهم من فرص متساويّة، لا يتساوى في الفرص مَن والده نائب في البرلمان أو رئيس شركة تجاريّة كُبرى ومَن والده عاطل عن العمل أو حاجب في مصرف. حتّى نسبة الذكاء نعلم علميّا أنّها تتأثّر بالتغذية وبالظروف المادّية للأهل (كمّية المال) وبأنّ "اللامساواة في الذكاء هي لامساواة اجتماعيّة"، كما كان عالم الاجتماع الفرنسيّ بورديّو يقول. نعم يولد الناس متساوون في الكرامة، لكنّ النظام الرأسماليّ لا يمنحهم تساويًا لا في الفرص ولا في الكرامة. إنّ كهّان وعبّاد الاقتصاد الـ"حرّ" يؤمنون بقوى السوق-الإله و«حكمته»، ولكنّهم أيضًا يؤمنون بالاشتراكيّة عندما يخسرون ملياراتهم في عمليّات المقامرة في السوق، إذ عندها يضغطون لكي يشاركهم كلّ المجتمع خسائرهم بأن تعطيهم الدولة تعويضات عن الخسائر (نذكر ما جرى إثر خسارات البنوك حول العالم عام ٢٠٠٨، وما يطرحه المصرفيّون في لبنان من أن يسمح لهم البرلمان بالسطو على مقدّرات المجتمع بعدما بدّدوا -هُم لا الدولة- أموال المودعين). هذا عدا الاشتراكيّة التي يمارسها الرأسماليّون فيما بينهم في العمل فيتعاونون لدعم نظام الاستغلال القائم وتوزيع الغنائم. وفيما يعظ كهّان الرأسماليّة بضرورة تفكيك شبكات الأمان الاجتماعيّ للدولة الحامية من صحّة وتعليم مجّانيّين ونظام تقاعديّ، وغير ذلك، هم يغرفون الأموال غرفًا من بيع بوليصات تأمين مذكّرين الناس بعدم الأمان -الذي خلقه الرأسماليّون- في الصحة والعمل والتقاعد. بواسطة قمع شرس للحرّية الفكريّة بخطابٍ تحريريّ ظاهريّاً (حرّية الاقتصاد، حرّية السوق، الحرّية الفرديّة، المبادرة الفرديّة، الحلم الأميركيّ)، وإيديولوجيّة تبسيطيّة (المنافسة والبقاء للأقوى، تخفيض الضرائب على الشركات سيؤدّي إلى نسب توظيف أعلى، إلخ.)، تجري محاولة تحطيم حرّية الإنسان ومنعه من مجرّد التفكير بإمكانيّات أُخرى. مَن كان همّه بالفعل المسيح، كان همّه بالفعل الإنسان، ولهذا لا بدّ إن كان على شيء بسيط من الاطّلاع، أو من الحسّ، أو من كليهما، أن يقول مع كوستي بندلي "بأنّ "الرأسماليّة نبذت الله فعليّاً، وإن لم تجاهر بذلك، لأنّها ألّهت المال والإنتاج"، كانت السلطات الكنسيّة والإسلاميّة – ولم تزل- تنتقد الإلحاد الشيوعيّ، لكنّها لا ترى ولا تنتقد نظامًا كامًلا يعمل على تدجين المؤمنين على عبادة السوق-الإله، ولكن توهمهم على أنّهم ما يزالون على إيمان مستقيم لأنّهم ما يزالون يرتادون الكنائس والجوامع. وإن كانت الشيوعيّة كما طبّقها الاتّحاد السوفيياتيّ قمعت الحرّية، فإنّ الرأسماليّة خانت كلّ المفهوم المسيحيّ للحرّية الذي يقول بأنّ الحرّية لا تقوم دون مساواة ومشاركة، وحدهم المشارِكون المتعاضدون القابلون للمساواة، أحرارٌ من انغلاقهم. كان يوحنا الذهبي الفم يعظ ويقول "مهما صُمت، ومهما ركعت، ومهما أكلت الرماد، وذرفت الدموع، فإنك لا تكون قد قمت بشيء عظيم إذا لم تكن مفيدًا للغير"، وأيضًا "لقد اقامنا المسيح على هذه الارض لكي ننشر النور، لكي نكون الخميرة. الأعمال تقوم مقام الكلام أفضل قيام. لو سلكنا سلوكًا مسيحيًا حقيقيًا لزالت الوثنية". لو عاش الذهبي الفم في زماننا لسمعناه يقول: لو سلكنا سلوكًا مسيحيًا حقيقيًا لَكُنّا بالتأكيد عملنا على نقد الرأسماليّة وإزالتها، عوض قبولها صاغرين دون إعمالٍ للعقل؛ لَكُنّا قاومناها، لَكُنّا رفضنا فكرة نهب المصارف لنا ولأولادنا وأحفادنا بواسطة ما يُسمّى بالـ«الصندوق السياديّ»، لواجهنا السياسيّين والمصرفيّين والتجّار عوض أن ننتخبهم من جديد. لو عاش الذهبي الفم في زماننا لسمعناه يقول: لو سلكنا سلوكًا مسيحيًا حقيقيًا لزالت الرأسماليّة. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |